الْخُروجُ على قَوانينِ المرور، اختبارُ الحرِّيةكنا بأحد التاكسيات في حي فقير بالضواحي الجنوبية لمدينة طهران. ومن خلال النافذة كنت قادراً علي رؤية صف من ‘ورش’ إصلاح الدراجات والسيارات. و لأن اليوم هو الجمعة، كانت جميع هذه الورش مغلقة وبدت الشوارع والأرصفة والمقاهي كذلك خالية.
اتجهنا إلى ميدان ضخم وخال، كان دائريا وفق النمط المنتشر بكل المدينة وهكذا كان لزاما علينا أن نتحول إلى اليمين وندور دورة كاملة لنصل إلى شارع يقع إلى يسارنا مباشرة.وسرعان ما لاحظت أن السائق ينتوي أن ينحرف مباشرة إلى اليسار، فلقد كان يتلفت ليري هل هناك سيارات أخرى تعبر الميدان. كان يفكر هل تجب عليه طاعة القانون، أم يستخدم عقله للتحايل عليه كما يفضل دائما عندما تفاجئه الحياة بأحد التحديات؟
وتذكرت كيف كنت أواجه نفس المأزق وأنا شاب عندما كنت أقوم بالقيادة في شوارع ‘استانبول’. كنت سائقا نموذجيا بالشوارع الرئيسية ‘تلك التي يصفها الصحفيون بـ ‘الغارقة في الفوضى المرورية’، لكن بمجرد أن اتجه بسيارة والدي إلى الشوارع الخلفية المرصوفة بالقرميد، كنت أتجاهل كل القواعد وأتصرف كما يحلو لي كانت إطاعة لافتة ‘ممنوع الاتجاه يسارا’ في شارع خلفي وفي عدم وجود سيارة أخرى أو الوقوف قبيل الميدان بانتظار تغير لون الإشارة إلى الأخضر، كانت بمثابة الاستسلام لسلطة لم تقدم أية امتيازات لمن يتسمون بالنشاط والذكاء.
كنا نتعالى علي من يطيع القانون حرفيا في تلك الآونة، فالناس لا يقومون بذلك إلا في حالة الافتقار للعقل أو الخيال أو الشخصية.
فإذا كنت علي استعداد لإطاعة الإشارة الحمراء عند تقاطع خال، فأنت من ذلك النوع الذي يحرص علي إفراغ أنبوب المعجون بالضغط علي نهايته، و لا يتناول أي دواء قبل الاطلاع علي النشرة جيدا. واذكر أن شكوكنا تجاه هذا النهج عبر عنه رسم كاريكاتيري بإحدى المجلات الغربية خلال فترة الستينات : سائق بانتظار الإشارة الخضراء وسط صحراء أمريكية، وهو يحدق في الطريق الخالية أمامه حتى ابعد نقطة يستطيع أن يراها.
وعند العودة إلى ‘استانبول’ خلال الفترة من خمسينات إلى ثمانينات القرن الماضي، يتبدي لي أن ازدراءنا لقوانين الطرق السريعة كان أكثر من مجرد ميل للفوضى كان شكلا خبيثا من الفكر القومي المعادي للغرب.
فعندما كنا نتأكد أن الغرباء بيننا، يكشف النظام القديم عن نفسه ونصبح قادرين علي القيام بحيلنا القديمة وخلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، كان المرء يشعر بفورة الحس القومي عندما يستخدم مسمارا محليا في لم أجزاء تليفون معطوب أو بأن يجعل مذياعا ألمانيا إصلاحه متعذر يعمل بضربة قبضته.
كانت اعمال من هذا النوع تجعلنا نشعر بالاختلاف عن هؤلاء الغربيين الذين يكنون تلك المهابة من قواعد التكنولوجيا والثقافة، كانوا يذكروننا كم نحن عالميون و واسعو الحيلة.
لكن بينما كنت علي حافة هذا الميدان بإحدى ضواحي طهران، أتابع السائق في تردده بين الطاعة وسعة الحيلة البرجماتية، استطعت أن أخمن أن ذلك الرجل، وقد عرفته كفاية حينئذ لم تكن به ادني رغبة في القيام بعمل قومي كانت مشكلته عالمية أكثر، كنا في عجلة من أمرنا ولذلك بدا الدوران حول الميدان مضيعة للوقت، لكنه ظل يتابع في تحفر الطرقات المؤدية الميدان لأنه أدرك أن التعجل في اتخاذ القرار قد يفضي إلى الاصطدام بسيارة أخرى.
أما أمس عندما كنا في خضم فوضى مرورية نتابع ذلك التتابع المدهش للسيارات، اشتكي لك هذا الرجل انه في طهران لا يحترم القانون احد ثم أضاف هو يبتسم، لكننا طوال اليوم عالقون في التكدس المروري. نحدق في السيارات ‘البايكان’ محلية الصنع ذات الجوانب المضعضعة ونتابع سائقيها وهم يصرخون ويتبادلون السباب و نسخر منهم كما لو كنا بحق ننتمي إلى هؤلاء المتمدينين الذين يعتقدون في أهمية القوانين المرورية للطرق السريعة.
و الآن بمقدوري أن المح بعض التوتر خلف ابتسامة السائق وهو يحاول أن يقرر هل يقوم بهذا الدوران غير القانوني أم لا.
وتذكرت أن نفس التوتر كان ينتابني أثناء مجاهدتي للقيادة عبر شوارع استانبول المزدحمة في فترة شبابي، وكذلك كنت اشعر بالوحدة.
فسائقنا وهو يفكر في التنازل عما يوفره القانون من فوائد وحماية لأجل توفير بعض الوقت، أدرك انه مقبل علي اتخاذ ذلك القرار بمفرده وهكذا كان عليه أن يستعرض سريعا قدر استطاعته، كل الاحتمالات المتاحة أمامه قبل إن يقرر علي ضوء ذلك ما سيقوم به، وقد أدرك تماما انه وحده من سيتحمل المسئولية كاملة عن مصيره ومصير من يحيطون به.
ومن الممكن القول بأن سائقنا وهو يكسر القواعد ويختار الحرية، إنما يأخذ قرارا يخصه وحده ولكن حتى لو كان سائقنا لم يحظ بحرية اتخاذ القرار، فهو يعرف المدينة وسائقيها بما يكفي ليدرك أن قدره الشعور بالوحدة طالما ظل سائقا في مدينة طهران. لأنه حتى لو قررت احترام قوانين المرور الحديثة، سيقوم آخرون مثلك لكنهم أكثر نفعية تجاهلها.
وخارج مركز المدينة يتحتم علي كل سائق في طهران عند التقاطعات أن يبدي انتباها ليس فقط تجاه إشارات المرور وقوانينه بل تجاه أي سائق اختار إن يتجاهلها وبينما في الغرب فإن السائق يستطيع الانتقال من حارة مرورية إلى أخرى وهو واثق أن الجميع حوله يحترمون القواعد، مما يسمح له أن يستمع للموسيقي والتحليق بأفكاره، فإن السائق في طهران يشعر بحرية من نوع آخر، لكنها لا توفر له أي شعور بالسلام والطمأنينة.
***
وعندما توجهت لزيارة طهران في مايو الماضي، ورأيت قدر الفوضى والدمار الذي تسبب فيه السائقون أنفسهم خلال اندفاعهم الغاضب والبارع حتى لا يستسلموا لقواعد المرور التي تسلبهم استقلالهم، تبين لي مدي التناقض بين شطحاتهم الفردية في اختراق القانون وبين القوانين الدينية التي تفرضها الدولة وتسير بقية شئون الحياة في المدينة ويسهم ذلك في خلق انطباع بأنه في الحياة العامة والشوارع يقاسمون الديكتاتورية المتأسلمة طريقة التفكير ذاتها عندما تقرر أن تغطي وجوه النساء وتراقب الكتب وتملأ السجون وتلصق تلك الملصقات الضخمة لهؤلاء الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم من أجل وطنهم وعقيدتهم تلصقها علي واجهات البنايات المرتفعة في المدينة والغريب انه أثناء المجاهدة للمرور خلال هذا التكدس المروري، والاستعانة بسائقي المدينة الذين لا يحترمون قانون المرور، عندئذ تشعر بحضور الدين حضورا واضحا ورائعا.
فبينما تفرض الدولة علي الجميع أن يطيعوا القوانين المستمدة من الكتاب المقدس ‘القرآن’ ودون رحمة تقوم بتطبيق هذه القوانين بزعم الحفاظ علي الوحدة القومية، والإعلان في وضوح أن كل من يصبو إلى كسر هذه القوانين سينتهي به الحال في السجن، فإن السائقين ورغم معرفتهم بأن الدولة تراقبهم لا يحترمون قوانين المرور بالطرق السريعة أو يتوقعون أن سواهم سيفعل ذلك، بل أنهم يرون الطريق مكانا يستطيعون فيه اختبار حدود حريتهم وخيالهم وبراعتهم.
وفي لقاءاتي بالمثقفين الإيرانيين، رأيت تجليات لنفس التناقض، فهم يرون أن حرياتهم تتعرض لانتقاص شديد بما فرضته الدولة من قوانين ذات طابع ديني علي الشوارع والأسواق والطرقات الرئيسية بالمدينة وغيرها من الأماكن العامة. و لا أستطيع إخفاء إعجابي : دون قدرة على المعاونة، تجاه محاولاتهم لإثبات أنهم لا يعيشون في ألمانيا النازية أو روسيا الستالينية، وذلك بأن يكشفوا لي قدرتهم علي مناقشة ما يشاءون، وارتداء ما يحلو لهم وتناول أية كمية من الكحول المهرب وذلك خلف الأبواب المغلقة لمنازلهم.
***
في الصفحات الأخيرة من رواية ‘لوليتا’، وبعد أن قام ‘همبرت’ بقتل ‘كويلتي’ وفر هاربا بسيارته من موقع الجريمة، كان واضحا أمام القارئ انه انحرف فجأة إلى الحارة التي علي يساره. وخشية أن يساء فهمه ينبه ‘همبرت’ القارئ بخفة حتى لا يتصور أن الانحراف المفاجئ لليسار كان فعلا رمزيا يدل علي الثورة فبعد أن قام بإغواء فتاة لم تزل طفلة، وبعد ارتكابه لتلك الجريمة، يكون قد انتهك أعظم القوانين الإنسانية، وتلك هي عبقرية حكاية ‘همبرت’ والرواية ذاتها فمن الصفحة الأولى ونحن نشاركه إثمه وحده.
وبعد تردده في اتخاذ القرار بإحدى ضواحي طهران، اختار صديقي السائق أن يسلك الطريق المختصرة، واتجه إلى الحارة المخالفة دون أن يتسبب في أية حادثة* تماما مثلما فعلت مرارا خلال شبابي في شوارع استانبول* وشعرنا كلانا بتلك الهزة التي تنتج عند كسر قاعدة، وشعرنا بأننا مهرة للغاية وتبادلنا الابتسام أما الشئ المحزن معرفتنا ‘مثل ‘همبرت’ الذي كان بارعا للغاية في تغطية لغته بغلالة شفافة وإخفاء آثامه، وكذلك مثل سكان طهران الذين عثروا علي وسائل عديدة للتحايل علي الشريعة داخل بيوتهم، أننا لا نستطيع انتهاك القانون إلا ونحن خلف عجلة القيادة، وان القوانين التي ننتهكها تتحكم في المرور فقط..!!
[/url]