السهروردي القتيل يضجُّ:
فمن يصغي؟
تتجسَّد نظريته لأنه غالباً يسندها بإبداع
عصام محفوظ
إننا قوم متجرِّدون من حيث لا مكان.
السهروردي
لا بدَّ أن أملك الأرض.
السهروردي
الخبر في الأسبوع الفائت هو إعلان منظمة أليكسو، التابعة لجامعة الدول العربية، مباراة لأفضل سيناريو عربي عن صلاح الدين الأيوبي (1138- 1193) في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته. ولأن المنظمة على عجلة من أمرها، حدَّدت مهلة شهرين فقط لتسليم المخطوطات. إن أي سيناريو تاريخي جيد يتطلب إنجازُه سنتين، لا شهرين؛ لكن جامعة الدول العربية تنبَّهت أخيراً لقيمة الوقت، فقررت "حرق المراحل"، لكن بطريقة معكوسة: الاستنجاد بالماضي بدلاً من الاستنجاد بالمستقبل.
إن توقيت الاهتمام ببطل حطين الذي استعاد القدس من الصليبيين يبدو وكأنه ردٌّ على إعلان السيد رابين أن القدس "عاصمة أبدية للدولة العبرية". والردُّ ينسجم مع طبيعة عمل جامعة الدول العربية منذ تأسيسها: الكلام تعويضاً عن الفعل.
لكن اهتمامات جامعة الدول العربية ودوافعها في هذه المناسبة لا تلغي أهمية المناسبة. فالرجل موضع التكريم له في التاريخ العربي والإسلامي والعالمي مكانة كبرى – ويكفي أن يكون انتزع الإعجاب من أعدائه قبل أصدقائه. ففي المكتبة الغربية من الإبداعات الفنية والأدبية التي تشيد بشخصيته أكثر بكثير مما في المكتبة العربية: إذ وضعه دانتي في الكوميديا الإلهية في مصاف مشاهير فلاسفة الإغريق. ومذَّاك تتوالى الأعمال الأدبية في موضوعه؛ وأهمها في القرن الفائت ملحمة طلمسان للإنكليزي والتر سكوت، وقبلها رواية الألماني لِسِّنغ بعنوان ناثان الحكيم، وغيرهما.
وإذا الجائزة المعلنة استطاعت أن تشحذ قرائح الكتاب العرب، فمن الأجدى ألا يكون لتكرار ما قيل، بل لاستنباط ما يجب أن يقال في هذه الشخصية الفذة، كما فعل المصري محمود دياب في مسرحيته باب الفتوح التي تكاد تكون يتيمة في بابها.
إنها سيرة غنية بالأحداث المعبِّرة؛ وكلُّها ينسجم مع شخصيًّته – باستثناء حدث واحد سأتوقف هنا عنده، لأن المؤرخين العرب كانوا يتحاشون الخوض فيه؛ إذ يشكل إحراجاً لطبيعة هذا القائد الذي بين أبرز صفاته التسامح. أما الحدث المعني فهو قتل الحكيم والشاعر السهروردي، مؤسِّس فلسفة الإشراق، بناء على اتهامات ملفَّقة ضده، بينها الكفر والزندقة والإلحاد. وفي اعتقادي أن هذه النقطة السوداء في سيرة صلاح الدين البيضاء تستحق هذه الوقفة.
***
في مطلع عام 1980 – وكنا بعدُ في مرحلة الصحافة المهجرية في باريس – شاء أحد الزملاء أن يذهب في عمله الإعلامي أبعد من الصحافة. وقبل أن يؤسِّس إذاعة عربية في باريس، خطط متفقاً مع أحد التلفزيونات الغربية لإنتاج سلسلة شرائط وثائقية عن بعض الشخصيات العربية التاريخية التي لأسمائها صدى لدى الغربيين (الأمر الذي سيحقِّقه بعد ذلك أمين معلوف في إطار الرواية). ولست أدري أين انتهى المشروع؛ لكنني أعرف كيف بدأ – والبداية لها علاقة بموضوعنا.
كان اسم صلاح الدين في رأس الشخصيات المطلوبة للتوثيق. وكان من سوء الحظ أن يختارني الزميل صاحب المشروع لكتابة سيناريو صلاح الدين، مقابل مكافأة مادية كبيرة، وحصة مئوية من الأرباح، مع سلفة فورية على الحساب. فوقَّعت العقد بعد أن زوَّدني المراجع اللازمة، عربية وفرنسية. كنت لا أزال في مرحلة التخطيط للسيناريو عندما فوجئت بأن صلاح الدين هو مَن قتل السهروردي! تجمد القلم في يدي، وعبثاً حاولت أن أتغلب على الصدمة، فاعتذرت. وإنني مدين للزميل الكريم بالشكر لأنه قابل موقفي بتفهُّم، وليس بغضب.
وطوال السنوات اللاحقة لم أجد وقتاً لأستوضح هذه المسألة التي صدمتني لكنها ظلت تشغلني. وأعتقد أنني اليوم في فرصة لتوضيحها.
الحق إنني لم أكن أعرف الكثير عن السهروردي المقتول؛ إلا أنني كنت أذكر إعجاباً به يتقاسمه يوسف الخال ود. ماجد فخري. وغالباً ما كان الخال يقارن حكمة الإشراق للسهروردي بديوان إشراقات للشاعر الفرنسي أرتور رامبو. وفي اعتقادي أن يوسف الخال هو الذي شجَّع فخري على تحقيق أحد كتب السهروردي لدار النهار للنشر عندما كان الخال مسؤولاً عنها في الستينات. وأذكر أن الخال كان يعزو اعتناق الدكتور فخري النصرانية إلى تأثره بالسهروردي المقتول.
وقد لا أشاطر الخال وفخري إعجابهما بزعيم الفلسفة الإشراقية الإسلامية، لكن هذا لا يمنع شعوري الدائم بالصدمة – ربما لأنني أشاطر بول إيلوار إيمانه بأن كل مياه البحار لا تكفي لغسل نقطة دم واحدة من كاتب يسقط شهيد معتقداته.
لذا سأحاول أن أوضح – لنفسي بقدر ما للآخرين – كيف جعل السهروردي صلاح الدين يفقد توازنه، برغم قلة المراجع بين يدي، وأهمها الجزء الثاني من كتاب حسين مروَّة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، والجزء الثاني من تاريخ الشعوب الإسلامية للمستشرق كارل بروكلمان (وهو بعنوان "الإمبراطورية الإسلامية وانحلالها")، والجزء الثاني من تاريخ العرب للدكاترة حتي وجبور وجرجي، إلى كتاب أمين معلوف عن الحروب الصليبية الذي نقله عفيف دمشقية إلى العربية، وتقديم إميل المعلوف لكتاب اللمحات للسهروردي.
صلاح الدين – الرحيم
يروي بهاء الدين (في كتاب أمين معلوف) فيقول: "كنت أسير إلى جانب السلطان قبالة الفرنج، فأقبل نحونا أحد كشافة الجيش ومعه امرأة كانت تنتحب وتقرع صدرها. فقال لنا: "خرجتْ من عند الفرنج وتريد مقابلة رئيسنا، فأحضرناها." وطلب صلاح الدين من ترجمانه أن يسألها فقالت: "دخل أمس لصوصٌ من المسلمين خيمتي وسرقوا ابنتي الصغيرة. وقد قضيت الليل بطوله أبكي. فقال رؤساؤنا: إن ملك المسلمين رحيم. سوف نتركك تذهبين إليه، وفي وسعك أن تطلبي منه ابنتك. وها أنا ذي أتيت عاقدة عليك كل الآمال." تأثر صلاح الدين وفاض الدمع من عينيه. وأرسل أحدهم للبحث عن البنت في سوق النخاسة. وبعد أقل من ساعة أقبل فارس يحمل الطفلة على كتفيه. وما إن رأتها الأم حتى ارتمت على الأرض ومرَّغت وجهها بالتراب، فبكى جميع الحاضرين... ."
لكن رحمة صلاح الدين الشهيرة لم تقتصر على الأفراد، بل كانت تطول جماعات؛ والأمثلة كثيرة. ويكفي أن نذكر ما يرويه فيليب حتي، نقلاً عن تاريخ والتر ستوبس، في مسألة قتل الأسرى، فيقول إن الفرنجة غالباً كانوا يقتلون أسراهم. أما هو فتوعَّد بقتل الأسرى بعد مقاومة عنيفة لدى حصار بيت المقدس. لكنه عندما دخله ظافراً لم يقتل الأسرى كما كان توعَّد، بل قَبِل فدية زهيدة. وعندما عجز فقراؤهم عن دفع الفدية أطلقهم دون مقابل، وهم آلاف، وزوَّد الأرامل والأيتام هدايا.
بل إن كرمه بلغ حداً لا مثيل له حين جاء "البرنس" صاحب إنطاكية فجأة إلى خيمة صلاح الدين، يطلب منه أن يعيد إليه ناحية أخذها السلطان منه قبل أربع سنوات، فأعطاه إياها.
هذا عن رحمة صلاح الدين. فماذا عن ذنب السهروردي؟
وقبل... من هو السهروردي؟
السهروردي المقتول
نقرأ في مقدمة كتاب اللمحات للسهروردي، بتحقيق إميل المعلوف، أن السهروردي الذي ولد في قرية سهرورد، في شمال غرب بلاد فارس، طلب العلم باكراً في أصفهان، ثم في ديار بكر، ثم بلاد الشام. واستقر في حلب، وهي في إمرة الملك الظاهر، ابن صلاح الدين. وفي حلب كتب أهم أعماله حكمة الإشراق، وكتاب اللمحات، وكتاب التلويحات، وكتاب المقاومات، وكتاب المطارحات، إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل.
عن فلسفته يقول حسين مروَّة: إن النظريات الإشراقية عند السهروردي المقتول نموذج حيٌّ للتداخل بين الفلسفة العقلانية (المشائية في شكل خاص) وبين فلسفة التصوف، إضافة إلى مصادر الفكر الإشراقي المتعددة (الزرادشتية، الفيثاغورية، الأفلاطونية، والهرمسية) في إطار الإسلام العام.
ويضيف مروَّة: من النصوص الأصلية التي يبدو أن السهروردي كان مستوعباً إياها بوعي جيد موضوعة "العالمية" التي يقوم عليها تاريخ الفكر الفلسفي، بمختلف أشكاله وتجلِّياته، في مختلف بيئاته وأزمنته. وإنه بهذا الاستيعاب وهذا الوعي بنى مذهبه التصوفي الإشراقي. لذلك فإن "الحركة الإشراقية، مذ ظهرت في إطار التصوف الإسلامي وجدت في السهروردي المقتول منظماً لنظريتها المتكاملة".
الفلسفة الإشراقية والإسلام الرسمي
إذا كان ثمة مسافة بين صلاح الدين والسهروردي فهي المسافة بين الفكر السُّني الرسمي – ومنظِّره الغزالي، حامل لواء المذهب الأشعري – وبين الفكر المجتهد للخروج من هذه البوتقة الدينية المُحكمة، بما أن الحياة في المجتمع الإسلامي آنذاك كانت قاسية على غالبية الناس. هي المسافة بين الفقهاء المحافظين، الذين أمسوا السندَ الوحيدَ لإيديولوجية الجماعة الحاكمة، وبين الجماهير التي تعاني أشد أنواع التمزق الداخلي سياسياً وإيديولوجياً على مدى الرقعة الجغرافية الواسعة التي انتشرت عليها الدويلات الإسلامية المتصارعة.
في هذا الإطار، راحت تتبلور حركات صوفية ذات منحى أبعد من الإسلام، أو كما يقول مروَّة، طلباً للخلاص بمفهومه المسيحي، ثم الصوفي – وهو في الأساس صدى لأشواق الجماهير المسحوقة. ولم تكن الغزوات الصليبية إلا لتزيد الحرب الفكرية اشتعالاً.
والآن نضع صلاح الدين في إطار هذه الصورة، لأنه كان آنذاك يمثل الحُكم السُّني الرسمي، ونرى كيفية تعامله مع هذا الواقع، لكي نفهم تعامله مع السهروردي الذي كان يمثل وجهة النظر الأخرى.
صلاح الدين والدين
لم يُعرَف عن صلاح الدين، برغم كونه طلع من قلب الحرب الدينية وعاشها وقاتل ومات فيها – لم يُعرَف عنه التعصب. كل المؤرخين تحدثوا عن اعتداله، خاصة مقارَناً بسلفه. لذلك يقول أمين معلوف: "كان يخلو من التزمُّت السطحي الذي كان يطبع تصرفات ابن زنكي."
ولكي ندرك حقيقة هذا الاعتدال نلقي نظرة على تعامل هذا الحاكم السُّني مع الخلافة الفاطمية في مصر (أي التيار الشيعي). إذ لدى دخوله القاهرة ظافراً، يأمره نور الدين بإعلان نهاية الخلافة الفاطمية، فلا يصدع صلاح الدين للأمر. وتتوالى رسائل نور الدين من الشام دون فائدة. ومهما تكن دوافع تجاهُل القائد الشاب أوامرَ رئيسه فإن الحادثة التالية شديدة التعبير عن إنسانيته في إطار هذا الصراع المذهبي: صعد ذات يوم جمعة منبرَ الجامعِ رجلٌ من الموصل كان يزور القاهرة، ودعا للخلافة العباسية. يتساءل معلوف في كتابه: "أيكون هذا عميلاً لنور الدين، أرسله لكي يُحرِج صلاح الدين؟" مهما يكن من أمر، فإننا نرى صلاح الدين يمنع أياً كان من إخبار الملك العاضد، آخر الملوك الفاطميين – وكان على فراش الموت – بالأمر قائلاً: "إن عوفي فإنه سيعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه قبل الوفاة."
ومع ذلك كان ضعيفاً أمام فقهاء حلب. ويكفي أن نقرأ الإنذار الذي أرسلوه إليه في مصر حين بدا عليه أنه لا يتقيد بأوامر مولاه نور الدين: "لقد ذهبتَ بعيداً جداً يا يوسف، وجاوزتَ الحدود. فلست سوى خادم لنور الدين... لا يغرنَّك الغرور. فنحن أخرجناك من العدم، ونعرف كيف نردُّك إليه." فكيف تم توظيف هذا التأثير في قضية السهروردي؟
الزندقة والإلحاد
كان أهل حلب مختلفين (كما يقول القاضي ابن شداد) في أمر السهروردي. إذ كان يرميه بعضهم بالزندقة والإلحاد، وينعته بعضهم الآخر بالتُقى والصلاح، بل يلقِّبه بـ"شهاب المِلَّة والدين" تارة، و"المؤيَّد بالملكوت" تارة. ويذكر الخوانساري في كتابه روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات أن ابن غياث الدين الشيرازي يشير في كتاب الذكرى إلى السهروردي وبعض المشاهير من حكماء المسلمين على أنهم ضلُّوا طريق الفضيلة، فمالوا عن أخلاق الحكماء الأوائل بإدمانهم الشراب وإقبالهم على متاع الدنيا، "حتى أغرقوا في الريبة والفجور، وطلبوا المجد من باب جمع المال وتملُّق السلطان". لكن الخوانساري نفسه، بحسب المعلوف، ينقض هذا الرأي ويراه بعيداً عن الحقيقة لأن السهروردي كان "تاركاً للدنيا". أما تشبيه بعضهم للسهروردي بأنه "خيَّامي" (أي كان يعاقر الخمرة مثل عمر بن الخيام) فربما لتكرار ذكر الخمرة في شعره برمزها الصوفي. فالخمرة في شعر الصوفية رمز الحب الإلهي، كما نرى لدى ابن الفارض، وكما في مطلع حائية السهروردي:
أبداً تحنُّ إليكم الأرواحُ / ووصالُكم ريحانُها والرَّاحُ
ثم إن مختلف الصفات التي كان يمكن لخصوم السهروردي أن يلصقوها به ما كانت كافية لقتله، لأن لا أحد ممَّن كانت تُلصَق بهم هذه الصفات في عصر السهروردي حُكِم عليه بالموت. فما هي التهمة المباشرة التي كانت الدافع إلى قتله؟ وإلى أي حدِّ هي صحيحة؟