<H1>*التعاريف الفلسفية للأنسنية*
حقيقة أن المفكر الأنسني في عصر النهضة لم يكن رجلا محيطا بما كتب القدماء، مستمدا وحيه منهم فحسب، بل كان رجلا قد فتن بالقدماء فتونا جعله يقلدهم في حياتهم ويحاكيهم في قناعتهم، ويقتدي بهم في لغتهم وتفكيرهم. ولا جرم أن حركة كهذه متى أوغل فيها أصحابها إلى أقصى حدودها المنطقية، كانت خليقة أن تتجه إلى النيل من رجال الدين المسيحي بحدة وقوة. وهو ما ساعد منذ ذلك الحين على شيوع القول بالتعارض بين الحركة الأنسنية والعقيدة المسيحية في مؤلفات الأنسنيين وكتاباتهم. بيد أن الاستعمال الفلسفي لمصطلح "الأنسنية" يتصف بالحداثة النسبية، ولو أنه برزت خلاله اتجاهات فلسفية عديدة ودقيقة في تعريف المصطلح، التقت جميعها على تثمين الإنسان بوصفه أعلى قيمة في الوجود، غير أنها تفاوتت في إيمانها بقدرته منفردا على تجاوز آلامه وبلوغ طموحاته، تحدوها في ذلك مؤثرات عديدة لا مجال لذكرها أو حتى التنويه عنها. و يورد الكاتب فيما يلي رصدا موجزا ووافيا نسبيا ـ من وجهة نظره ـ لأهم وأبرز الاتجاهات الفلسفية في تعريف مصطلح "الأنسنية":
1- تعريف شيلر F.C.S.Schiller:
الأنسنية عند الفيلسوف الإنجليزي فرديناند شيلر هي أبسط وجهات النظر الفلسفية، وقوامها هو إدراك الإنسان أن المشكلة الفلسفية تخص كائنات بشرية، تبذل غاية جهدها لتفهم عالم التجربة الإنسانية، وزادها في ذلك أدوات الفكر البشري وملكاته. وطبقا لما أورده الفيلسوف شيلر في كتابه "دراسات في المذهب الإنساني Studies in Humanism "، لا خلاف بين الأنسنية وبين آراء الناس فيما تواضعوا عليه من أمور الواقع، فهي لا تنكر ما اصطلح الجمهور على وصفه بصفة " العالم الخارجي ". إنها تكن احتراما بالغا عميقا للقيمة البراجماتية للتصورات التي تدر بالفعل أفضل مما تدر تصورات الميتافيزيقا التي تحتقرها وتريد أن تبطلها. ولكنها تصر على أن "العالم الخارجي" الذي يقول به أنصار الواقعية لا يزال يعتمد على التجربة الإنسانية، بيد أنهاـ يقصد الأنسنيةـ قد تتجزأ فتضيف أن معطيات التجربة الإنسانية لم تستعمل استعمالا تاما في بناء عالم خارجي واقعي.
2- تعريف أورده دي روجمون Denis de Rougemont:
من تعريفات الأنسنية المهمة أيضا ذلك التعريف الذي يرى أن الإنسان ينبغي عليه من الناحية الأخلاقية أن يقصر اهتمامه على ما يدخل في النطاق الإنساني من صفات وفضائل وأعمال. وبهذا الصدد يقول الكاتب السويسري دى روجمون في كتابه "سياسة الشخصية Politique de la Personne"، المنشور عام 1934، ما نصه: "إن المذهب الإنساني ـ يقصد الأنسنية ـ يدل على نظرة عامة عن الحياة (السياسية، والاقتصادية، والخلقية)، تدور على الاعتقاد بأن خلاص الإنسان يتحقق بالجهد الإنساني وحده. وهو اعتقاد مخالف كل المخالفة للعقيدة المسيحية التي تذهب إلى أن خلاص الإنسان يتحقق بفضل من الله وحده ومن الإيمان".
3- تعريف جاك ماريتان Jacques Maritain :
دأب الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان على التأكيد، في كتاباته العديدة، على موقف الفيلسوف المسيحي من الأنسنية، وذلك باعتباره أحد أعلام التوماوية الجديدة، ومن ذلك كتابه "الأنسنية المتكاملةIntegral Humanism"، المنشور عام 1936. فقد عرف ماريتان هذا الموقف بأنه ذلك الذي يحاول أن يجعل الإنسان أنسنيا حقا، وأن يظهرنا نحن البشر على عظمته الأصيلة حين يجعله مساهما في كل ما يمكن أن يوفر ثراءه في الطبيعة وفي التاريخ. انه الموقف الذي يطلب إلى الإنسان أن ينمي الإمكانيات المنطوية فيه، وأن يذكي قواه المبتدعة وحياة العقل، ويسعى إلى أن يجعل من قوى العالم الفيزيقي أدوات وذرائع لحريته.
4- تعريف سارتر J. P. Sartre:
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شاع استعمال مصطلح "الأنسنية" في أوروبا وأمريكا شيوعا حمل الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر على وضع كتاب مهم حول طبيعة العلاقة بين الوجودية والأنسنية. فالأنسنية من وجهة نظر الفيلسوف الوجودي سارتر ترى أن الإنسان هو على الدوام خارج نفسه، ومتى جعل نفسه مشروعا ومتى أضاع نفسه خارج نفسه، استطاع أن يجعل نفسه موجودا. ومن جهة أخرى إنما يستطيع الإنسان أن يكون موجودا حين يسعى إلى أغراض متعالية، أي تتجاوزه. ولما كان الإنسان هو هذا التجاوز، ولما كان لا يتناول الموضوعات إلا بالقياس إلى هذا التجاوز، فهو حينئذ في لب التجاوز نفسه. وليس هنالك من عالم إلا العالم الإنساني، عالم الذاتية الإنسانية. فالوجودية ـ والكلام لجان بول سارتر ـ أنسنية، لأنها تذكر الإنسان بأنه ليس هنالك من تشريع إلا نفسه، وأن الإنسان، حين يبحث خارج نفسه عن غرض هو تحرر معين وتحقق خاص، إنما يحقق نفسه إنسانا.
*محاولات صياغة أنسنية عالمية*
يعد الرواج العظيم الذي لقيه مصطلح "الأنسنية" مسئولا بشكل أو بآخر عن زيادة الاختلاف في معانيه عند مستعمليه من أصحاب الاتجاهات الفلسفية المختلفة، فضلا عن كونه مسئولا كذلك عن كثرة الاختلاط حول المصطلح، ليس في أذهان العامة فحسب، و إنما لدى كثير من الكتاب والمؤلفين أيضا. وهو ما حدا ببعض الفلاسفة والمفكرين المأخوذين بما للأنسنية من رونق وجاذبية لبذل جهود حثيثة في صياغة خصائص بعينها لما اصطلحوا على اعتباره "أنسنية عالميةWorld Humanism"، اعتقدوا في تجاوزها للاختلافات والتناقضات الواردة في التعاريف المختلفة للأنسنية، إلى جانب اعتقادهم في تمييزها للفلسفة الأنسنية عما عداها من فلسفات. وفيما يلي عرضا موجزا لأهم المحاولات المبذولة في هذا الصدد:
1- محاولة لامونت Corliss Lamont :
أورد الفيلسوف الأمريكي كورليس لامونت في كتابه ذائع الصيت "الفلسفة الأنسنية The Philosophy of Humanism"، عشر خصائص، اعتبرها تجسيدا للأنسنية في أكثر أشكالها الحديثة قبولا. وأكد لامونت على ما تتيحه تلك الخصائص للأنسني من مزية نعت الأنسنية بما يحلو له من صفات، فله أن يطلق عليها الأنسنية العلمية أو العلمانية أو الطبيعية أو الديمقراطية، وذلك حسبما يتراءى له. فطبقا للفيلسوف الأمريكي، تحتفظ الأنسنية في ظل النعوت المختلفة بوجهة نظرها القائلة بأن البشر لا يملكون سوى حياة واحدة، لزاما عليهم أن ينفقوها، كلها أو معظمها على الأقل، في سلام دائم وإبداع متواصل. على أن يستندوا في ذلك إلى طاقاتهم الإنسانية الإبداعية، لا إلى قوة خارجية أو عالية على الكون. على أية حال، أوجز الأمريكي لامونت رؤيته للأنسنية العالمية في امتلاكها للخصائص التالية:
1) اعتقادها في الميتافيزيقيا الطبيعية، أو بعبارة أخرى اتخاذها موقفا تجاه الكون يعتبر كل أشكال ما فوق الطبيعة أساطير، وينظر للطبيعة على أنها جملة الموجود، فضلا عن إدراكه لها كنظام للمادة والطاقة دائم التغير، يعيش مستقلا عن أي عقل أو وعي.
2) اعتقادها، مستندة في ذلك إلى القوانين والحقائق العلمية، في كون الجنس البشري نتاجا تطوريا للطبيعة، وجزءا منها في الوقت ذاته. وكذلك اعتقادها في الارتباط الوثيق بين العقل ووظائف المخ، علاوة على اعتقادها الراسخ في وحدة الجسد والشخصية، وهو ما يعني ـ من وجهة نظر لامونت ـ القول باستحالة حدوث بعث للوعي بعد الموت.
3) اعتقادها، انطلاقا من إيمانها العظيم بالجنس البشري، في امتلاك البشر الإمكانية والقدرة على حل مشكلاتهم، عبر اعتمادهم الأساسي على العقل والمناهج العلمية المطبقة بشجاعة لخدمة رؤية بعينها.
4) اعتقادها، وذلك على خلاف نظريات الجبر أو القضاء والقدر أو القدر السابق، أن البشر، رغم كونهم محكومين بالماضي، يملكون حرية حقيقية للاختيار والفعل الخلاق، وأنهم، رغم خضوعهم لقيود موضوعية بعينها، يملكون القدرة على صياغة مصائرهم.
5) اعتقادها في مواثيق الشرف والأخلاقيات التي تشكل الأرضية لكل القيم الإنسانية السارية في الخبرات والعلاقات الحياتية على كوكب الأرض، والتي تحفظ على الإنسان أهدافه العليا الماثلة في السعادة والحرية والتقدم الاقتصادي والثقافي والأخلاقي، بغض النظر عن الأمة أو العنصر أو الديانة التي ينتمي إليها هذا الإنسان.
6) اعتقادها أن الفرد يحقق الحياة الطيبة عبر ما يحدثه من تناغم بين تلبية المطالب الشخصية والتطور الذاتي المستمر وبين العمل المهم والنشاطات الأخرى التي تساهم في تحقيق الرفاهية للمجتمع.
7) اعتقادها في إمكانية الوصول لأبعد مدى ممكن في تطوير الفن والوعي بالجمال، بما في ذلك استحسان جمال الطبيعة وإدراك جلالها، على أمل أن تصبح الخبرات الاستاطيقية (الخاصة بعلم الجمال ) واقعا سائدا في الحياة.
8) اعتقادها في البرامج الاجتماعية بعيدة المدى، الرامية لإحلال الديمقراطية والسلام ومستويات المعيشة المرتفعة في شتى أنحاء المعمورة، والمستندة في ذلك إلى نظم اقتصادية منتعشة على الصعيدين الوطني والدولي.
9) اعتقادها في الإعمال الاجتماعي الكامل للعقل والمناهج العلمية، وكذا اعتقادها في التدابير الديمقراطية والحكم البرلماني، الكافل لحرية التعبير والحريات المدنية، في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
10) اعتقادها، متمشية في ذلك مع المناهج العلمية، في حتمية الطرح السرمدي للتساؤلات حول الافتراضات والقناعات الأساسية، بما في ذلك الافتراضات والقناعات المرتبطة بالأنسنية ذاتها. لكونها ليست دوجما Dogma (حكما لا يقبل الشك)، وإنما فلسفة متطورة، منفتحة على تذوق الخبرات والاكتشافات الجديدة والاستدلالات الأكثر دقة.
2- محاولة الاتحاد الأنسني والأخلاقي الدولي IHEU :
وافق الآباء المؤسسون للاتحاد الأنسني والأخلاقي الدولي International Humanist and Ethical Union، في مؤتمرهم الأول بهولندا عام 1952، على ما اعتبروه بيانا بالمبادئ الأساسية للأنسنية العالمية. غير أن المؤتمر العالمي للاتحاد الدولي، والمنعقد بهولندا عام 2002، أي بعد مرور خمسين عاما على انعقاد المؤتمر الأول، تعهد بالتحديث بيان المؤتمر الأول، المعروف باسم "إعلان أمستردام Amsterdam Declaration"، واعتبره تعريفا رسميا لخصائص الأنسنية الحديثة، تمييزا لها عن غيرها من الفلسفات. وعليه أضحى " إعلان أمستردام معروفا باسم "إعلان أمستردام 2002 Amsterdam Declaration 2002 "، و أضحت المبادئ الواردة به والتالي عرضها تجسيدا فعليا لرؤية الاتحاد الدولي لخصائص الأنسنية العالمية:
1) الأنسنية أخلاقية، فهي تؤكد قيمة وكرامة واستقلالية الفرد، علاوة على تأكيدها لحقه في التمتع بأكبر قدر ممكن من الحرية، بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين. فالأنسنيون يهتمون بالبشر كافة، بما في ذلك الأجيال القادمة، ويؤمنون بأن الأخلاق جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وأنها تقوم على التفاهم مع الآخرين والاهتمام بهم، ولا تتطلب قوة خارجية لفرضها.
2) الأنسنية عقلانية، فهي ترمى للتوظيف الخلاق وليس الهدام للعلم. فالأنسنيون يعتقدون في أن حل مشاكل العالم سبيله الفكر والفعل البشريين وليس تدخل القوى العالية عن الكون. والأنسنية تدافع عن الأخذ بالمناهج العلمية في حل المشكلات الإنسانية، بما لا يتعارض مع القيم الإنسانية ذاتها، فهي التي تساعد الإنسان على تحديد الغايات التي يعد العلم وسيلة لبلوغها.
3) الأنسنية تساند الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهدفها بلوغ الكائن البشري أقصى قدر ممكن من التطور. إنها تعتبر الديمقراطية والتنمية البشرية حقا طبيعيا لذلك الكائن. فطبقا للأنسنية، تهيمن المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان على العلاقات الإنسانية، فلا يترك قرار الأخذ بهما أو تركهما للحكومات والأنظمة، أيا كانت طبيعتها، لكونهما حقا إنسانيا.
4) الأنسنية تصر على ضرورة تناغم الحريات الشخصية مع المسؤولية الاجتماعية. أو بعبارة أخرى، تؤكد الأنسنية على ضرورة بناء عالم يكون فيه الشخص الحر مسئولا أمام المجتمع، كما أنها تعترف باعتماد الإنسان على الطبيعة وكذا تعترف بمسئوليته تجاهها. والأنسنية ليست دوجماطيقية، فهي لا تفرض عقيدة بعينها على الأنسنيين، وتطالب بحق الإنسان في التعليم الحر.
5) الأنسنية تؤكد على إيمانها بعدم مشروعية إجبار الإنسان على اعتناق ديانة بعينها، وكذا عدم مشروعية السعي لفرض الاعتناق القسري لبعض الديانات الرئيسية في العالم على الآخرين، استنادا لكونها صالحة لكل زمان ومكان. فالأنسنية تعترف بحق الإنسان في التدبر والتقييم والاختيار الحر لعقيدته، أيا كانت تللك العقيدة.
6) الأنسنية تثمن الخيال والإبداع الفني، وتعترف بدور الفنون والآداب في تطوير الملكات الخلاقة. فهي تؤمن بارتباط الفنون على اختلافها وتنوعها بما يحرزه الإنسان من تطور وتقدم في مناحي الحياة المختلفة.
7) الأنسنية تعد موقفا حياتيا يرمى لتمكين صاحبه من تحقيق أقصى قدر ممكن من الآمال والطموحات، فضلا عن تزويد الأنسنية معتنقيها بالأدوات الأخلاقية والعقلانية اللازمة للتعاطي الكفء مع الحياة، في كل زمان ومكان.
والآن، أما وقد عرضنا محاولتي لامونت والاتحاد الأنسني والأخلاقي الدولي لصياغة أنسنية عالمية، تتميز عما عداها من فلسفات، وتتجاوز خصائصها الاختلافات الواردة في التعاريف الفلسفية المتعددة للأنسنية، يتبقى لنا أن نشير لوجود قدر غير قليل من التشابه الجوهري بين المحاولتين. فكلتاهما تؤكدان على ارتباط الأنسنية بتثمين العقل البشري، وتريان في المواثيق الأخلاقية رافدا مهما لها. إضافة إلى تأكيد المحاولتين على ارتباط الأنسنية بالتناغم بين الحريات الشخصية والمسؤوليات الاجتماعية، وكذا ارتباطها بالاحترام الكامل للمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتظل المحاولتان المذكورتان، والمحاولات الأخرى المماثلة، دليلا حيا على عمق وجدية الرغبة الإنسانية في صياغة أنسنية عالمية، تصبح الأرض في ظلها مقاما جميلا طيبا. </H1>