kanaan
| موضوع: مقال:الدولة الدينية في الإسلام.. وهم أم حقيقة؟؟ الجمعة أغسطس 24, 2007 1:29 pm | |
| د. محمود إسماعيل كثر الجدل قديما وحديثا حول إشكالية الدين والدولة دون حسم أو قطع، خصوصا فى العالمين العربى والإسلامى. ويرجع ذلك فى المحل الأول - إلى أسباب سوسيو - سياسية، مفادها استمرار الخلل فى البنية الاجتماعية، الذى يرجع بدوره إلى عدم الحسم فى الأساس الاقتصادى بين أنماط الإنتاج، وما ترتب عليه من أبنية علوية عكست بدورها آفة التخليط الفكرى والثقافى، ومن ثم الاختلاف الايديولوجى. ففى أوربا - على سبيل المثال - أفضى حسم الصراع بين البورجوازية والإقطاع إلى الفصل القاطع بين الدين والسياسة، فكان ظهور الدولة المدنية المؤسسة على قاعدة العقد الاجتماعى، فما لقيصر ليقصر وما لله لله. أما العالم الإسلامى، فقد شهد - خلال مسيرته الطويلة تاريخيا - صراعا مائعا بين البورجوازية والإقطاع أفضى عدم حسمه إلى تخليط وتعايش بين أنماط إنتاج متناقضة وهزيلة، بما أسفر عن تكوين أنماط سياسية هشة ذات إيدلوجيات مضببة وهجينة. بديهى - والأمر كذلك - أن يستمر الجدل حول مفهوم الدولة صاخبا وملتبسا. بديهى أيضا أن يعلو صوت الإيدولوجيا الدينية التى تروم إحياء الدولة الثيوقراطية دونما فهم أولى عقلانى عن العلاقة بين الدين والسياسة. ومن المعلوم المسلم به أن غلبة اللجاج اللاهوتى يعكس حقيقة التطور اللامتكافئ للواقع السوسيو - سياسى الذى لم يشهد - للآن - ثورة رأسمالية تنجز حركة إصلاح دينى تفصل بين الدين والدولة. ويرجع ذلك إلى عجز وشلل البورجوازية فى المجتمعات الإسلامية إلى حد حكم كلود كاهن بأنها مجتمعات بلابورجوازية أصلا. إن فهما حقيقيا لجوهر الدين يعزله تماما عن السياسة، تستوى فى ذلك الديانات السماوية الثلاث. صحيح أن دولة إسرائيل استثمرت الدوجما اليهودية لخدمة تأسيسها. لكن العقيدة اليهودية بحق تعتبر الحركة الصهيونية منافية لها بل يرى قطاع عريض من أحبار اليهود المعاصرين أن قيام دولة إسرائيل محض كفر بالموسوية. أما المسيحية، فلا تقيم وزنا للحياة الدنيوية برمتها، باعتبارها مؤسسة على الخطيئة يقول السيد المسيح: مملكتى ليست فى هذا العالم، ويصم القديس أوغسطين مدينة الأرض بأنها مملكة الشر. وإذا استثمرت الكنيسة فى روما وبيزنطة، اللاهوت لخدمة الناسوت، فقد كان ذلك يمثل خروجا على تعاليم المسيحية، مالبث أن جرى تصحيحه بحركة الإصلاح البروتستانتى التى كانت مظهرا من مظاهر انتصار الطبقة البورجوازية فى صراعها المرير مع الفيودالية.
ولا يخرج جوهر الإسلام عن رؤية اليهودية والمسيحية بصدد إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وهو ما وقف عليه دارسون وفقهاء مستنيرون من أمثال الشيخ على عبدالرازق والمرحوم الشيخ خليل عبدالكريم والفقيه المعاصر الأستاذ جمال البنا. وقد قدموا من الأدلة والبراهين والقرائن الواضحة والراسخة لدعم أطروحتهم، بما لا يدع مجالا للتكرار والاجترار. لكن الثابت أن ثلاثتهم اقتصروا فى تبيان أطروحتهم على دراسة عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، على الرغم من أن العصور التالية أكثر تعبيرا وأنصح برهانا ودليلا على صدق تلك الأطروحة، وهو أمر يحفزنا إلى الكشف عن تلك الحجج والبراهين الدالة على أن ما عرف باسم الخلافة الإسلامية محض أوهام وخرافة تسكن عقول أصحاب التيارات الأصولية السلفية ليس إلا. نحن فى غنى عن إثبات حقيقة كون القرآن الكريم والسنة النبوية خلوا تماما من تحديد نظام بعينه فى الحكم له سماته الخاصة وصفاته المميزة عن النظم التى عرفتها البشرية، من ديموقراطية وبلوتوقراطية - الحكم المؤسس على الثروة - والأوتوقراطية وحكم الفرد.. الخ. فالحكم فى القرآن منوط بمبدأ الشورى، وهذا المبدأ يحدد البشر لصالح الجماعة وأمرهم - وليس أمر الله - شورى بينهم. فالبشر أعلم بشئون دنياهم. أما عن دلالة الآية الكريمة من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فتتعلق بالقضاء وليس الحكم. وتجربة حكم دولة المدينة فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الوحى مناط التشريع فيها، ولم تشهد مقومات الدولة من نظم ومؤسسات وحدود وسيادة وسلطة.. الخ بحيث يمكن أن تشكل أنموذجا إسلاميا يحتذى وعلاقة المدينة بسائر أقاليم شبه الجزيرة العربية كانت ذات سمة كونفدرالية إن جاز التشبيه بحيث أوكل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شيوخ القبائل أمر إدارة مضاربهم وفق معطياتها السابقة شريطة دفع الزكاة. وتجربة الحكم فى عصر الراشدين تثبت الطابع الدنيوى، فلم يحدد نظام بعينه ثابت وقار فى تولية الخلفاء الأربعة. وإذا كانوا من قريش، فلا يعنى ذلك تبرير فقهاء الأحكام السلطانية فيما بعد إقرار مبدأ الخلافة فى قريش لا لشئ إلا أنه يناقض مبدأ الشورى أصلا. ولو كان حكم الخلفاء الراشدين خطة دينية لما اختلفت الصحابة فيما بينهم ذلك الخلاف الذى أفضى إلى سفك الدماء. لم يخرج الأمر عن كونه صراعا مشروعاً حول السلطة، وهو ما فطن إليه ابن قتيبه فى كتابة الإمامة والسياسة. وإذا اعتبر الخليفة عثمان بن عفان - رضى الله عنه الخلافة قميص ألبسه الله إياه، فقد عبر عن فهمه الخاص للمسألة المنافى لمبدأ الشورى أساسا. لو كانت الخلافة خطة دينية، لما اختلفت الفرق الإسلامية بصددها، فقد حكرها السنة على قريش، والشيعة على آل البيت، والمرجئة على المتغلب والمعتزلة على أهل العدل، بينما كان تصور الخوارج أقرب ما يكون إلى مبدأ الشورى، فهى عندهم حق متاح لكل مسلم بغض النظر عن أصله أو لونه، بل دعوا إلى إلغائها بالكلية حينما تتحقق العدالة، فاعتبروها لذلك شرا لا بد منه. أما عن الفكر السياسى خلال العصور التالية، منذ العصر الأموى حتى إلغاء الخلافة عام 1924م على يد أتاتورك، فنتلمسه فى أدبيات شتى ومتنوعة، تتمثل فى مباحث الفقه وكتب الفلاسفة، وأدب السياسة، وكلها مرجعيات لا علاقة لها بالدين ألبتة. فعلم الفقه - فيما نري- من علوم الدنيا لا الدين، فهو اجتهادات رجال بصدد موضوع يتعلق بأمر دنيوى، أصابوا فيه وأخطأوا. ولو كانت مسألة الخلافة قضية دينية لما اختلفت اجتهاداتهم وتباينت بل كان فقهاء السلطان أصحاب الغلبة والصوت المسموع الذى يعبر عن الحكم القائم ويروج له تبريرا لا برهنة مستقاة من مبدأ الشورى. فالاشعرى مثلا برر حكومة العسكر مع بقاء الخلافة كرمز اسمى ليس إلا. والغزالى أقر حكومة المتغلب حتى لو كان ظالما درءاً للفتنة وألزم الرعية بالطاعة العمياء واعدا إياهم بحسن الجزاء فى الآخرة..!! أما عن كتب الأحكام السلطانية، فقد قعدت وقننت لما هو كائن وقائم وفقا لمعيار البقاء للأقوى، وليس للأصلح، مؤولين للآيات القرآنية ومنتحلين للأحاديث النبوية. ولا غرو، إذ خلت مدوناتهم من تبيان حقوق الرعية، وألحت على حقوق الحاكم. أما عن كتاب الملل والنحل، فقد كانوا ذوى مذهبيات مختلفة يكفر بعضهم البعض الآخر انطلاقا من حديث مصطنع عن الفرقة الناجية والفرق الهالكة. ومعلوم أن الفكر السياسى لطوائف الفرق الإسلامية لم يكن ثابتا، بل تغير أو تعدل حسب مقتضى الحال. فبعض فرق الشيعة - مثلا- جوزوا خلافتى أبى بكر وعمر وفقا لمبدأ جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ومنهم من روج للإمامة الروحية بديلا للإمامة الدنيوية، ومنهم من جوز حكومة السفراء والفقهاء فى حال غيبة الأئمة من آل البيت. والخوارج تحدثوا عن إمامة الدفاع وإمامة الظهور، وأفتى بعض فقهائهم بجواز وجود إمامين فى وقت واحد. وابتكر بعضهم نظاما أساسه الاعراف والعوائد عرف باسم العزابة، بل أفتى البعض بإلغاء الإمامة بالكلية. وقدم الفلاسفة تصورات يوتوبية عن خلافة أو إمامة مثالية، مستفيد من تراث الفرس واليونان فى صياغة أسسها وقواعدها، كما هو حال الفارابى الذى قدم آراء أهل المدينة الفاضلة. واعترف البعض بخلافة العباسيين المؤسسة على الحق الإلهى المقدس، قال أبو جعفر المنصور إنما أنا ظل الله على الأرض، بينما تحدث إخوان الصفا عن دولة أهل الخير التى تستمد شريعتها من الدين والحكمة وسائر المذاهب الإسلامية أما عن أدب السياسة، فقد راج فى العصور المتاخرة ليبرر للحكومات القائمة ومعظمها حكومات عسكر - وهو فى مجمله أشبه بنصائح قدمت للحكام من قبل فقهاء لكيفية الحفاظ على الملك بأساليب ميكيافيللية. قصارى القول، إن الفكر السياسى الذى نظر لمفهوم الحكم الثيوقراطى لا علاقة له بالإسلام أساسا. حاول تسخيره لتطاول السلطان، لا مصالح الرعية. هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه تنوع وتعدد حسب مقتضى الحال ولم يفرز إطارا نظريا موحدا على الأقل فى المبادئ العامة، بحيث يمكن الحديث عن فكر سياسى إسلامى مميز عن سابقة أول لاحقه. بديهى أن يسفر ذلك عن تأسيس نظم ذات طابع استبدادى فى معظم الأحوال، يسئ إلى الشريعة الإسلامية بمبادئها فى الثورية والحرية والعدالة والتعلم. من هنا عجز الفقه الإسلامى عن تقديم دستور يشمل تلك المبادئ برغم نصاعتها فى القرآن والسنة إذ جرى الاجتهاد بحافز المصلحة أساسا، لأغراض دنيوية على حساب مبادئ الدين. وحسبنا أن التاريخ الإسلامى - رغم طول مداه زمانيا ومكانيا لم يشهد قوانين عامة مدونة، كقوانين حمورابى والقوانين الرومانية، ومدونات جستينان، وحتى نابليون بونابرت!! بل تحجر الفقة وتجمد منصرفا إلى الترهات والسفاسف، ومبتعدا عن قضايا المجمتع الأساسية، خصوصا فى مجال الحكم والسياسة. ونتيجة لذلك، وجدنا معظم مسائل الفقه الجوهرية دون حلول شافية لمشكلات الواقع، الأمر الذى أفضى إلى ظهور ظاهرتى الحيل والنوازل أما الحيل فهى محض فتاوى تتلاعب بأحكام الشريعة، والنوازل ما هى إلا قضايا بقيت دون حلول لعجز الفقهاء عن تقديم إجابات شافية بصددها. كما فشت ظاهرة اطراح الفقه ظهريا والتعديل على الأعراف المحلية فى معالجة مشكلات الواقع، كما هو الحال بالنسبة لمدونتى أعمال أهل فاس وأعمال قرطبة. ولعل تحجر الفقه حديثا كان من أسباب لجوء الدساتير الحديثة إلى القوانين الغربية واعتمادها فى الحكم والإدارة والقضاء. تلك معالجة سريعة وموجزة تتعلق بالفكر السياسى بصدد مفهوم الدولة فى التاريخ الإسلامى، نتبعها بمقال آخر عن واقع الدولة فى التاريخ الإسلامى، بهدف إثارة حوار بناء حول مفهوم الدولة الثيوقراطية، لعله يضع حدا للفوضى الدينية والمذهبية الخلاقة التى يطرحها المشروع الأمريكى الصهيونى المعاصر.
| |
|