التماهي بين إرادة الله وإرادة السلطان
إن غاية وجود السلطان هو الإنسان؛ إذ "أن الإنسان أعز جواهر الدنيا وأعلاها قدرا وأشرفها منزلة وبالسلطان صلاح الإنسان، إذا فهو أعز إعلاق الدنيا وأعمقها بركة... وليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نبي مرسل أو ملك مقرب... وليس لله في الأرض سلطان إلا وقد أخذ عليه شرائط العدل ومواثيق الإنصاف وشرائع الإحسان. وكما أنه ليس فوق رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة لشرير لأن شره يعم، كما أن خير الأول يعم"[21]. فنحن هنا أمام معادلة تقريبية توازي بين مرتبة السلطان مرتبة الأنبياء والرسل فـ "السلطان في الأرض هو خلافة النبوة في إصلاح الخلائق"[22].
ومن ثم فإن وجود السلطان في الأرض، حسب الطرطوشي، حكمة لله تعالى عظيمة ونعمة على العباد جزيلة. ومن الحكم في إقامة السلطان أنه حجج الله على وجوده سبحانه ومن علاماته على توحيده؛ لأنه كما لا يمكن استقامة أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وترتيبه وما فيه من الحكمة ودقائق الصنعة بغير خالق خلقه وعالم أتقنه وحكيم دبره. وكما لا يستقيم سلطانان في بلد واحد لا يستقيم إلهان للعالم"؛ فـ"العالم بأسره في سلطان الله كالبلد في يد سلطان الأرض"[23] ويلاحظ نوع من الاستنجاد بمفهوم الإله حيث يرمي إلى حفر مقصد أساسي في ذاكرة "لاوعي" المحكومين، ألا وهو استحالة مواجهة الآخرين لقدرة السلطان ما دامت هذه القدرة هي الإله والطبيعة.
العدل والعقل: قوام للملك وثبات للدول.
إن العدل هو "قوام الملك ودوام الدول، وأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو صلاحية" [24] وهو ميزان الله في الأرض الذي به يؤخذ للضعيف من القوي وللمحق من المبطل، وليس موضع الميزان بين الرعية فقط بل بين السلطان والرعية أيضا، فمن أزال ميزان الله الذي وضعه من القيام بالقسط فقد تعرض لسخط الله. فـ "أفضل الأزمنة أزمنة أئمة العدل"[25] و"الزمان وعاء لأهله"[26]، وقد سمع زياد رجلا يذم الزمان، فقال: لو كان يدري ما الزمان لعاقبته، إن الزمان هو السلطان. وقال معاوية لابن الكوى: صف لي الزمان؟ فقال أنت الزمان إن تصلح يصلح وإن تفسد يفسد" [27].
وزمان العدل ينقسم إلى قسمين: "قسم إلهي جاءت به الرسل والأنبياء... والثاني ما يشبه العدل وهو السياسة الاصطلاحية التي هرم عليها الكبير ونشأ عليها الصغير، وبعيد أن يبقى سلطان أو تستقيم رعية، في حال إيمان أو كفر، بلا عدل قائم، ولا ترتيب للأمور ثابت، ولذلك ما لا يجوز ولا يمكن"[28].
لكن لا بد أن نلحظ أن في هذا المعيار أو المقياس "العدل" يستتر معنى آخر للدين هو "الصلاح"، وهو معنى ذو وظيفة اجتماعية مادية تختلف عن الوظيفة الميتافيزيقية والروحية التي يحققها الإيمان للفرد أو الجماعة، بل إن الإيمان، بالمعيار الذي أورده الطرطوشي ، وهو صحيح على كل حال، لا يتجلى أو يستقيم إلا من خلال الصلاح، أي من طريق مواصلة أو تصحيح الوظيفة الاجتماعية للدين الحنيف[29]. وهو نفس المعنى الذي أكد عليه ابن قتيبة قبله بأن صلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بالإرشاد وحسن التبصر.
العقل نوعان: غريزي ومكتسب
مثلما يحتاج السلطان إلى العلم للتواصل مع الحياة ومواكبتها، فإنه محتاج أيضا إلى العقل لانتظام شؤون الملك "ومعرفة ما لم يكن بما قد كان". وفي نظر الطرطوشي، فإن العقل نوعان: "العقل الغريزي" و"العقل المكتسب"، وهذا الأخير "هو نتيجة العقل الغريزي وهو ثقابة المعرفة، وإصابة الفكرة وليس له حد ينتهي إليه لأنه ينمو إذا استعمل وينقص إذا أهمل.." فنماؤه من "أحد وجهين: إما أن يقارنه من مبدأ النشوء ذكاء وحسن فطنة.." أو "بطول ممارسة الأمور وكثرة التجارب ومرور العبر وتصدت لأسماعهم أنواع الأخبار وآثار الغير."[30] وقد "اختلف الناس في العقل المكتسب إذا تناهى وزاد في الإنسان هل يكون فضيلة؟ فقال معظم العقلاء: إنه فضيلة لأنه إذا كان مجموع آحاد، وللآحاد فضائل فلا شك أن كثرة الفضائل فضيلة. وأما الشيء المحدود تكون الزيادة فيه نقصا" إلا في "المحدود كالتهور في الشجاعة والتبذير في الكرم. وأما "الزيادة في العقل المكتسب فزيادة علم بالأمور وحسن إصابة بالظنون ومعرفة ما لم يكن بما قد كان"[31].
بهذا الإحكام العقلي لضرورة السلطان وبهذا التشابه الضروري مع نظام الطبيعة تحولت المقولة السياسية إلى أيديولوجيا ذات مستند فلسفي وعمق عقائدي ديني تماهي بين وجود السلطان، مجرد وجوده، وبين استمرار الدين وبقاء الملة[32].
مقاربة مفهوم السلطان بعنف الطبيعة
جرت عادة مثل هذه الأدبيات أن تضع مقابلة أو تناظر بين مفهوم السلطان
-الملك أو رجل السلطة- وبين معنى العنف، الذي يشكل بعدا أساسيا في مفهوم السلطان. وستكون الطبيعة الفضاء الرحب الذي سيتم الاستعانة ببعض صورها، خاصة ما يتعلق منها بمظاهر عنف الطبيعة، باعتبارها أكثر الصور دلالة في المخيال الإنساني على القوة والبطش وضرورة الخضوع لها رغم تناقضات أحوالها، كما كانت القصدية المبتغاة من ذلك تقديم النصيحة بالتزام الطاعة والتحذير من الخروج عليها، فكثرت في الأدبيات الإسلامية "آداب الطاعة ومحاذيرها".
وهكذا وعند بحثه في فصل "القضاة والولاة إذا عدلوا" يتطرق الطرطوشي إلى السبب الرئيس لإقامة السلطة القضائية بواجبها من دفع القوي الضعيف، وإنصاف المظلوم من الظالم ليستقر المجتمع ويسود النظام العام، وإلا فإن الفساد يعم الأرض ومن عليها.. ثم يقارن بين منافع السلطان ومضاره من جهة، وبين مظاهر الطبيعة وسلبياتها من جهة أخرى، كالرياح والأمطار والشتاء والصيف والليل والنهار.. وعليه، فالسلطان مثل "الرياح التي يرسلها تعالى نشرا بين يدي رحمته فيسوق بها السحاب ويجعلها لقاحا للثمرات.. وقد تضر بكثير من الناس في برهم وبحرهم، وتخلص إلى أنفسهم فيشكرها الشاكرون، وقد يتأذى بها كثير من الناس.. ومثاله أيضا مثال الشتاء والصيف الذي جعل الله حرهما وبردهما صلاحا للحرث والنسل ونتاجا للحب والثمر.. ومثاله أيضا مثال الليل الذي يسكن فيه الناس، ويستوحشه الفقراء منهم، ويتحرك فيه أهل الدعارة والفساد واللصوص. ومثاله أيضا مثال النهار الذي جعله الله ضياء ونشورا واكتسابا وانتشارا وقد تكون فيه الحروب والغارات والتعب والنصب .." وهكذا كل جسيم من أمور الدنيا، يكون ضرره خاصا ونفعه عاما، فهو نعمة عامة، وكل شيء يكون نفعه خاصا فهو بلاء عام، فلو كانت نعم الدنيا صفوا من غير كدر، وميسورها من غير معسور لكانت الدنيا هي الجنة التي لا نصب فيها ولا تعب." [33]
التزام الصبر كمنقذ من الفتن
ضمن هذه الصيرورة المنطقية يدعو الطرطوشي - في تصنيفه السياسي- إلى الطاعة الشرعية، ويثبط الناس عن الخروج ويرشدهم إلى المسلك السياسي النبوي في حال جور السلطان وحلول الفتن.. وقد خص لهذا الغرض أكثر من باب من كتابه؛ كالباب الأربعين "فيما يجب على الرعية إذا جار السلطان" والباب الثاني والثلاثين "في معرفة الصبر وجميل عواقبه".. فسلطة رجل السياسة في مثل اتساع سلطة الطبيعة القاهرة، وحيث وجب الصبر على أذى هذه الطبيعة وجب بالمثل طاعة السلطان، والصبر على أذاه اعتبارا لما ينطوي عليه عمل السلطان دائما من تداخل المضمرة والمنفعة.. وخاصة ما يمثله هذا الرمز من معاني الوحدة والتماسك والحفاظ على الذات. لذلك عندما يقارن بين منافع السلطان ومضاره من جهة، وبين مظاهر الطبيعة بإيجابياتها وسلبياتها من جهة يستخرج حكما مفاده أن كل جسيم من أمور الدنيا يكون ضرره خاصا ونفعه عاما فهو نعمة عامة، وهذه النعمة ليست إلا نعمة الاستقرار والوحدة، وكل شيء يكون نفعه خاصا فهو بلاء عام. ومن ثم فليس من حق المحكومين الخروج على السلطان الجائر، ما دامت كفة المصالح تترجح على كفة المفاسد بوجود ذلك السلطان، محتجا بأن : "الملوك اليوم ليسوا مثل الملوك الذين مضوا، فعليه أن يعلم أن الرعية أيضا- في رأي الطرطوشي- ليسوا كمن مضى من الرعية، ولست بأن تذم أميرك إذا رأيت آثار من مضى منهم فأولى من أن يذمك أميرك، إذا نظر آثار من مضى من الرعية، فإذا جار السلطان فعليك الصبر وعليه الوزر" [34].
وبناء على هذه الرؤية المقاصدية لم يبق أمام الفقيه خيار سوى الدعوة إلى الاستمساك بالصبر على أذى رجل السلطة، "فإذا جار عليك السلطان، فعليك الصبر وعليه الوزر.."[35] بل إن الصبر لا يقتضي فقط كف اللسان، بل والجوارح أيضا عن نقده وفضحه أو الدعاء عليه بقلة التوفيق "لأن من قلة توفيقه ظلمه لك، فإن استجيب دعاؤك فيه زاد ظلمه لك"[36]. وغاية ما يمكن أن يقدم له جملة من النصائح فـ "إن تبذل له النصيحة وتخصه بصالح دعائها فإن في صلاحه صلاح العباد والبلاد وفي فساده فساد العباد والبلاد"[37] وبذلك لم يعد من موقف يبديه الرعية من رجل السلطة، عادلا كان أو جائرا، سوى الطاعة والصبر كوسيلتين يتحقق بهما المقصد الأسمى ألا وهو الحفاظ على تماسك الأمة، ودرء مفاسد الفتن وعواقبها الوخيمة.
استنتاج:
ضمن هذه المعطيات التي سقناها، وخاصة ما تعلق منها بطبيعة المعالجة السياسية لإشكالية الطاعة السياسية في المنظومة الفكرية السياسية، تبدو لنا تلك القفزة النوعية التي حققها التنظير الفقهي في معالجة المسألة السياسية، حيث إن الفقيه أو رجل العلم لم يظل حبيسا لمفاهيم نظرية-مبدئية، عديمة الصلة بالواقع السياسي الجديد، بل كان شديد الصلة بواقعه حيث تعامل مع هذا الواقع، وسخر كل إمكانياته وآلياته الاجتهادية قصد استيعابه وتطويقه. فكان العمل الفقهي وهو يواكب جملة من المتغيرات يتجه شطر التنظير للواقع السياسي الفعلي قصد استيعابه وتصحيحه, حفاظا على تماسك الأمة.. فهو موقف سياسي يحكمه منطق الضرورة، وفكرة المقاصد ، وميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد. ضمن هذا الإطار فقط يمكن أن نفهم ذلك التمييز الذي قدمه الطرطوشي بين الدولة الروحية الملتزمة بالعدل المطلق؛ هذه الدولة التي يعتبرها دولة مثالية لاوجود لها على أرضية الواقع، وبين الاتجاه الواقعي لتنظيم الدولة، الملتزمة بالعدل النسبي.
وضمن هذه الرؤية أيضا يمكن أن نفهم نوعية الطاعة التي كان الفقيه المالكي ينظر لها، وألح على ضرورة التمسك والالتزام بها، تلك الطاعة التي لم تتجاوز بعدها السياسي، حيث ظل ذلك الولاء ولاء سياسيا لا دينيا، ومن ثم فإن الاعتراف الفقهي بالدولة التاريخية السلطانية لدى الطرطوشي وغيره من الفقهاء لا بد من وضعه في إطاره التاريخي، والوقوف على الحيثيات التاريخية التي صيغ في ضوئها هذا الاعتراف، لنستنتج بأن ذلك الاعتراف كان اعترافا ظرفيا استثنائيا مراعاة لمصلحة الجماعة ولمقتضيات الضرورة ولحالات الطوارئ.. وهو الأمر الذي جعلنا لا نرجح ما مالت إليه بعض الدراسات من كون هذا الاعتراف يندرج في إطار منطق التبرير وأسلوب التنازلات لصالح المؤسسة السلطانية.
[1] - من كبار علماء المالكية ترجم له الكثيرون –ابن خلكان في وفيات الأعيان- وأثنى عليه، وترجم له ابن فرحون في كتابه الديباج المذهب، وذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، ضمن كبار العلماء المتوفين سنة (520) ووصفه شيخ المالكية بالثغر، وترجم له الشيخ محمد محمد مخلوف، في شجرة النور الزكية، والزركلي في الأعلام وغيرهم، وكل هؤلاء جعلوه من كبار شيوخ المذهب المالكي.
[2]- وهذا المنهج الذي اعتمده الكتاب الإداريون لدى الدولة العباسية على الخصوص.
[3]- كتاب سراج الملوك لمحمد بن الوليد الطرطوشي، تحقيق جعفر البياتي، نشر: رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 1990م.
[4] - كتاب سراج الملوك، الباب 12/ 303
- [5] انظر مقدمة المؤلف، ص 50.
[6] - كتاب سراج الملوك، الباب7/ ص 157
[7] - المصدر نفسه، الباب 3/135
[8] - المصدر نفسه الباب 7/ ص 156
[9] - سراج الملوك، الباب15/ 188- 189
[10] - المصدر نفسه
[11] - المصدر نفسه، ص 189
[12] - المصدر نفسه الباب7/157
[13] - الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في السلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، عبد المجيد الصغير، ص 98، دار المنتخب العربي، الطبعة الأولى: 1415هـ/1994م.
[14] - وربما كان هذا المعنى مستوحى من التراث الفارسي المترجم، أنظر تفصيل ذلك في: الفكر الأصولي،ص 286
[15] - العقد الفريد لابن عبد ربه ج1 /7
[16] - سراج الملوك، الباب7 /156.
[17] - - سراج الملوك، الباب11/169.
[18] - - سراج الملوك، الباب7 /157
[19] - المصدر نفسه 157
[20] - انظر مقدمة ابن خلدون، ص 166.
[21] - سراج الملوك، الباب 5/146.
[22] - المصدر نفسه، الباب 5/ 146.
[23] - المصدر نفسه الباب 7/ 156
[24] - سراج الملوك، الباب 11/ ص 169
[25] - المصدر نفسه
[26] - المصدر نفسه، الباب 10/ ص 344
[27] - المصدر نفسه، الباب 16/ 194
[28] - المصدر نفسه، الباب 11/ ص 170.
[29] -علي إسماعيل النصار، الوعي التاريخي لفكرة الدولة في التاريخ الإسلامي، ص 54. مجلة منبر الحوار، العدد 36، 1998م.
[30] - سراج الملوك، الباب 33/ ص 214.
[31] - المصدر نفسه
[32] - انظر د. وجيه قانصو، تكون الفكرة السياسية في الإسلام، ص، 31-32.
[33] - المصدر نفسه، الباب 8/ 160.
[34] - المصدر نفسه، الباب 40/ 344
[35] - المصدر نفسه
[36] - المصدر نفسه، الباب40/345
[37] - المصدر نفسه، الباب 7/157.