فالمشكل السياسي الأساس ببساطة هو ذلك المتعلق ب "التنظيم المحكم للدولة والذي هو في متناول الإنسان فعلا".
ومن أجل إنصاف التغيير الذي أنجزه ماكيافيلي يجب الأخذ بعين الاعتبار تغيرين عظيمين حدثا بعد عصره لكن كانا في انسجام مع روح أفكاره. فالحدث الأول هو الثورة التي وقعت في العلوم الطبيعية، أي بزوغ العلوم الطبيعية الحديثة. فرفض العلل الغائية (وبعدها مباشرة تم رفض مفهوم المصادفة بدوره) قوض القاعدة النظرية للفلسفة السياسية الكلاسيكية.
فالعلم الطبيعي الحديث يختلف عن مختلف أشكال العلم الطبيعي القديم، ليس فقط بسبب فهمه الجديد للطبيعة بل وخصوصا، بسبب فهمه الجيد للعلم؛ إذ لم تعد المعرفة تفهم، كما هو الشأن مع الإنسان ولا مع النظام الكوني، كسعي وراء معرفة تقبلية أساسا. فالمبادرة في الفهم هي استدعاء الإنسان للطبيعة قبل تحكيم عقله. إنه "يضع الطبيعة موضوع السؤال" (بيكون Bacon). فالمعرفة نوع من الصناعة والفهم الإنساني يفـرض على الطبيعة قوانينه. فسلطة الإنسان لا متناهية الكبر عكس ما كان يعتقد به حتى الآن. ليس بإمكان الإنسان فقط أن يحول مادة إنسانية فاسدة إلى أخرى صالحة، أو أن يقهر المصادفة، لأن كلا من الحقيقة والمعنى متأصلان في الإنسان، وليسا ملازمين لنظام كوني يوجد باستقلال عن النشاط الإنساني. وبالمقابل لم يعد الشعر يفهم بدوره كتقليد ملهم أو كإعادة إنتـاج بل كإبداع. لقد أعيد تأويل هدف العلم : كوسيلة للسيطرة (propter potentiam) من أجل تحسين وضع الإنسان والسيطرة على الطبيعة ومن أجل التحكم الأقصى أي التحكم المنهجي في الشروط الطبيعية للحيـاة البشرية. إن السيطرة على الطبيعة تعني أن الطبيعة عدو وفوضى يجب إخضاعها للنظام. فكل شيء حسن مرده إلى عمل الإنسان أكثر مما هو راجع إلى هبة الطبيعة. فالطبيعة لا تمنح سوى المواد التافهة تقريبا. وبناء عليه فالمجتمـع السياسي ليس طبيعيا بأية حال من الأحوال. والدولة ببساطة شيء اصطناعي ونتاج للاتفاقات . فليس الكمال الإنساني هو الغاية الطبيعية للإنسان بل إنـه المثل الأعلى الذي شكل بحرية من طرف الإنسان.
أما التغيير الثاني المابعد ماكيافيلي والذي ينسجم مع روح فكره فيخص الفلسفة السياسية أو الأخلاقية فقط. فماكيافيلي فك فيه كلية الارتباط بين السياسة والقانون الطبيعي، أي مع عدالة تفهم كشيء مستقل عن اعتباطية الإنسان. فالثورة الماكيافيلية لم تحقق كامل قوتـها إلا عندمـا أعيد تحقيق ذلك الربط: أي عندما أعيد تأويل العدالة أو الحق الطبيعي بروح ماكيافيلية. هذا هو في المقام الأول العمل الذي قام به هوبز. ويمكن أن يوصف التغيير الذي أحدثه هوبز كما يلي: في الوقت الذي فهم فيه القانون الطبيعي سابقا على ضوء تراتبية غايات الإنسان، والتي تحتل فيها مسألة الحفاظ على الذات مرتبة أدنى، فهم هوبز القانون الطبيعي بصيغة الحفاظ على الذات. وبارتباط مع ذلك فالقانون الطبيعي أصبح مفهوما بالأساس في صيغة الحق في الحفاظ على الذات كشيء متميز عن أي ضرورة أو واجب، وهو تطور يبلغ ذروته مع حلول حقوق الإنسان محل القانون الطبيعي (عوضت الطبيعة بالإنسان وعوض القانون بالحقوق). وكما تقدم عند هوبز نفسه، فالحق الطبيعي في الحفاظ على الذات يتضمن الحق في "حرية جسدية"، وفي وضع لا يسأم فيه الإنسان. من الحياة فهذا الحق الطبيعي يقارب الحق في حفاظ على الذات بشكل مريح هو محور تعاليم لوك. لا يسعني هنا إلا أن أؤكد على أن التشديد المتزايد على الدراسات الاقتصاديـة ما هو إلا نتيجة لذلك. وفي نـهاية الأمر نصل إلى الرأي القائل بأن الفيض الكوني والسلام هما الشرطان الضروريان والكافيان للعدالة المكتملة.
أما الموجة الثانية للحداثة فقد ابتدأت مع روسو. لقد غير هذا الأخير المناخ الأخلاقي بنفس العمق الذي أحدثه ماكيافيلي. وكما تعاملـت بالضبط مع حالة ماكيافيلي سوف أصف مميزات فكر روسو وذلك بالتعليق على جملتين أو ثلاث من جمله. فخاصيات الموجة الأولى للحداثة كانت اختزالا للمشكل السياسي والأخلاقي في المشكل التقني. وأصبح مفهوم الطبيعة كما لو كان في حاجة إلى تغليفه بالحضارة كمجرد شيء اصطناعي. كلتا الخاصيتين كانتا محط نقد روسو. ففيما يتعلق بالخاصية الأولى "يتحدث قدامى السياسيين بلا توقف عن العادات الحسنة وعن الفضيلة في حين لا يتحدث سياسيونا سوى عن التجارة والمال" يحتج روسو ـ باسم الفضيلة، أي الفضيلة الأصلية واللانفعية للجمهوريات الكلاسيكيـة ضد المذاهب الواهنة والمتلاشية لسابقيه. لقد عارض العقلنة الخانقة للملكيـة المطلقة والروح التجارية الأكثر أو الأقل قسوة للجمهوريات الحديثة. بيد أنه لم يعمل على إعادة الاعتبار للمفهوم الكلاسيكي للفضيلة باعتباره الغاية الطبيعية للإنسان وككمال لطبيعته. لقد أرغم على إعادة تأويل الفضيلة لأنه تبنى المفهوم الحديث للحالة الطبيعية كحالة يجد فيها الإنسان نفسه وقد عاد إلى البداية. لم يستعر روسو هذا المفهوم من هوبز وأتباعه فحسب، بل استقاه انطلاقا من النتائج المرتبة عليه : " كل الفلاسفة الذين فحصوا أسس المجتمع شعروا كلهم بضرورة العودة إلى حالة الطبيعـة لكـن لا أحد منهم بلغ هذا الـهدف".
لكن روسو استطاع بلوغه لأنه رأى بأن ذلك الإنسان الذي يعيش على الحالة الطبيعية هو إنسان مجرد من كل ما اكتسبه بمجهوداته الخاصة.
فالإنسان في حالة الطبيعية إما أنه أدنى من مرتبة الإنسان (Subhuman) أو ما قبل إنساني (prehuman). أما إنسانيته أو عقلانيته فقد اكتسبها عبر سيرورة طويلة. وفي كتابات ما بعد روسو، فإنسانية الإنسان لا ترجع إلى الطبيعة، وإنما إلى التاريخ أي إلى السيرورة التاريخية. وهـي سيرورة وحيدة أو فريدة ولا غائية : فنهاية السيرورة أو قمتها كانت غير متوقعة ولا يمكن توقعها، بل ظهرت للعيان فقط مع اقتراب إمكانية التحقيق الكلي لعقلانية الإنسان أو لإنسانيته. إن مفهوم التاريخ، أي السيرورة مفردة والتي يصبح الإنسان فيها إنسانا بدون رغبة منه، إنما هي نتيجة لتجذير روسو لمفهوم الحالة الطبيعية عند هوبز.
لكن كيف يتسنى لنا معرفة أن حالة معينة من تطور الإنسان هي القمة ؟ أو بصيغة أعم، كيف يمكننا تمييز الحسن من القبيح إذا كان الإنسان بطبعه دون مرتبة البشر، أو إذا كانت حالة الطبيعة أدنى من منزلة البشر ؟ لنكرر القول : إن الإنسان الطبيعي عند روسو لا يفتقر، كما هو شأن الإنسان الطبيعي عند هوبز، إلى الاجتماعية وحسب، بل ويفتقر إلى العقلانية أيضا. فهو ليس حيوانا عاقلا ، بل إنه حيوان فاعل حر .أو بعبارة أوضح إنه حيوان يملك مرونة، أو كمالية لا محدودة تقريبا. لكن كيف يلزمه أن يتشكل أو يشكل نفسه ؟ فطبيعة الإنسان تبدو غير كافية على الإطلاق لإرشاده. وهي تزوده بإرشاد يتحدد فيما يلي : تحت شروط محددة، أي في طور محدد من تطوره ، يكون الإنسان عاجزا عن الحفاظ على ذاته ماعدا في حالة إقامة مجتمع مدن. بيد أنه سيعرض الحفاظ على ذاته للخطر إذا لم يتأكد من أن للمجتمع المدني بنية محددة أي بنية تفضي إلى الحفاظ على ذاته: أي يجب أن يحصل الإنسان في المجتمع على الرديف الكامل للحـرية التي كان يمتـلكها في حالة الطبيعة. ويجب أن يكون كل أفراد المجتمع خاضعين بالتساوي، وعلى وجه الإطلاق للقوانين، التي ينبغي لكل واحد منهم المساهمـة في تسطيرها. ويجب ألا تكون هناك إمكانية للاستئناف من القوانين أي القوانين الوضعية إلى قانون أعلى أي القانون الطبيعي. فمثل هذا الاستئناف سيعرض سيادة القوانين للخطر.
إن مصدر القانون الوضعي، ولا شيء آخر غير القانون الوضعي، هو الإرادة العامة، أي إرادة ملازمة ومتأصلة في المجتمع المؤسّس بمعنى الكلمة، والتي تحل محل القانون الطبيعي المتعالي. وتبتدئ الحداثة مع الاستياء من الـهوة التي تفصل بين ما هو كائن (The is) وما ينبغي أن يكون (The ought) أي بين الواقعي والمثالي. أما الحل المقترح من طرف الموجة الأولى للحداثة فهو : تقريب ما ينبغي أن يكون مما هو كائن، وذلك بالتقليل من شأن ما ينبغي أن يكون عن طريق إدراك ما ينبغي أن يكون كأنه لا يتطلـب من الإنسان أشياء جد صعبة المنال، أو كأنه في انسجام مع أعم وأقوى نزوع لدى الإنسان. وعلى الرغم من هذا التقليل، فالاختلاف الجوهري بينهما يبقى قائما، ولو أنه لم يكن بإمكان هوبز أن ينكر ببساطـة، شرعية الاستئناف مما هو كائن، أي النظام القائم، إلى ما ينبغي أن يكون، أي القانون الطبيعي أو الأخلاقي.
إن تصور روسو للإرادة العامة (general will)ـ والتي بما هي إرادة عامة لا يمكنها أن تضل. والتي هي ببساطة كينونة ما ينبغي أن يكون ـ ولـهذا تبين كيف يمكن التغلب على الهوة الفاصلة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وبصريح العبارة فإن روسو لم يبين هذا إلا شريطة أن مذهبـه في الإرادة العامة، أي مذهبه السياسي الصرف، مرتبط بمذهبه في السيرورة التاريخية. إلا أن هذا الربط كان أيضا عمل كل من لاحقيه العظيمين كانط وهيغل عوض أن يقتصر على روسو بالذات. وتبعا لهذا الرأي فالمجتمع العادل، أو المجتمع العقلاني المتميز بوجود إرادة عامة معروفة بكونـها هي الإرادة العامة أي المثل الأعلى، يتحقق بالضرورة في سياق السيرورة التاريخية بدون أن يهدف الإنسان إلى ذلك التحقيق .
لماذا لا يمكن أن تضل الإرادة العامة؟ ولماذا تكون الإرادة العامة خيرة بالضرورة؟ والجواب هو : أنـها خيرة لأنـها عقلانية. وهي عقلانية لأنـها عامة. إنـها تنجم عن طريق تعميم الإرادة الخاصة، والتي بما هي إرادة خاصة فإنـها ليست خيرة. ما كان يشغل بال روسو هو حاجة كـل فرد إلى مجتمع جمهوري من أجل أن يصوغ رغباته وطموحاته تجاه أنداده في شكل قوانين. ولا يمكن أن يترك ذلك بالقول : "لا أريد أن ادفـع ضرائب "بل من الواجب أن يقترح قانونا يلغي الضرائب. وعندما يصوغ رغبته في قانون ممكن، عندها يدرك حماقة إرادته الأولية أو الخاصة. هذا هو إذن التعميم المجرد لإرادة تكفل خيرها. ولا حاجة إلى اللجوء إلى أي اعتبار فعلي لما تتطلبه طبيعة الإنسان أو كماله الطبيعي. لقد بلغ الفكر الناتج عن هذه الحقبة وضوحه الكامل في مذهب كانط الأخلاقي : إن الاختبار الكافي لمحاسن القواعد العامة للسلوك هو قابليتها أن تصبح مبادئ للتشريع الكوني، وهو الشكل المجرد للعقلانية، أي أن الكونية تكفل محاسن المحتـوى. وبناء عليه فالقوانين الأخلاقية، كقوانين للحرية، لم تعد تؤخذ كقوانين طبيعية. إن المثل العليا الأخلاقية والسياسية قد أنشئت بدون العـودة إلى طبيعة الإنسان: لقد تحرر الإنسان كلية من حجر الطبيعة. والحجج التي تعارض المثل الأعلى والمقتبسة من طبيعة الإنسان كمـا فهمت عبر تجارب لا يرقى إليها الشك، على مدى العصور، هذه الحجج لم تعد تكتسي أهمية تذكر. وما يزعم أنه طبيعة بشرية إن هو إلا نتيجة للتطور الإنساني حتى الوقت الحاضر. إنـه الماضي الإنساني فحسب، والـذي لا يستطيع منح أي إرشاد للمستقبل الممكن للإنسان . فالإرشاد الوحيد المتعلق بالمستقبل وبما يجب على الإنسان فعله أو ما يطمح إليه لا يمنح سوى من طرف العقل. فالعقل يعوض الطبيعة. وهذا هو معنى التوكيـد على أن ما ينبغي أن يكون ليس له أي أساس بتاتا فيما هو كائن.
هذه الحصيلة هي التي ألهمت كانط والفلسفة المثالية الألمانية أي فلسفة الحرية. لكن هناك فكرا جوهريا لروسو لا يقل أهـمية عما أشير إليه، والذي تخلى عنه فعلا كانط وأتباعه، والذي أعطى ثمارا في مكان آخـر من العالم الحديث. لقد تقبلت الفلسفة الألمانية وجذرت فكرة الإرادة العامة وتضميناتـها وبذلك تخلت عن مؤهلات روسو في هذه الطريقـة من الاستدلال. "ولد الإنسان حرا، ولكنه مقيد في كل مكان. كيف حـدث هذا التغيير ؟ لست أدري. وما الذي يجعل هذا التغيير شرعيا ؟ أعتقد أنني أستطيع الجواب" أي أن المجتمع الحر المتحققة فيه إرادة عامة يتميز عن المجتمع المحكوم استبداديا. تميز الرابطة الشرعية من غير الشرعية؛ رغم أن هذه الأخيرة تبقى في حد ذاتـها رابطة. لن يجد الإنسان حريته في أي مجتمع كان. وهو لن يعثر عليها إلا بالعودة من المجتمع مهما كان خيرا أو شرعيا إلى الطبيعة. وبتعبير آخر فإن الحفاظ على الذات، وهو مضمون الحـق الطبيعي الأولي الذي انبثق عنه العقد الاجتماعي ليس هو الحقيقة الأساسية. فالحفاظ على الذات لن يكون حسنا إذا كانت الحياة الفعلية والوجود الفعلي غير خيرين. فخير الوجود الفعلي يتم اختياره من خلال الإحساس بالوجود. وهذا الإحساس هو الباعث على الاهتمام بالحفـاظ على الوجود وعلى كل نشاط إنساني. لكن هذا الاهتمام يحرم الإنسان من المتعـة الأساسية ويجعل الإنسان تعيسا. وبالرجوع فقط إلى التجربة الأوليـة يمكن للإنسان أن يصبح سعيدا. وقليل من الناس فقط يستطيع تحقيق هذا الأمر في وقت يستطيع فيه كل الناس تقريبا التصرف وفقا للحـق المشتق في الحفاظ على الذات، أي العيش كمواطنين. أما بالنسبة للمواطن فالمطلوب منه القيام بواجبه، كما يجب عليه التحلي بالفضيلة. لكن الفضيلة ليست هي الطيبوبة. فالطيبوبة (حساسية، إشفاق) بدون شعور بالواجب وبدون إلزام وبدون جهد ـ لا فضيلة بدون جهد ـ هي ما يحمي الإنسان الطبيعي. ذلك الإنسان الذي يعيش على هامش المجتمع بـدون أن يشكل جزءا منه. فمن جهة هناك هوة لا يمكن ردمهـا بين عالم الفضيلة والعقل والحرية الأخلاقية والتاريخ ومن جهة أخرى الطبيعة والحرية الطبيعية والطيبوبة.
وفي هذا الصدد يبدو إعطاء ملاحظة عامة حول مفهوم الحداثة ملائما. منذ البداية فهمت الحداثة في تعارضها مع العصور القديمة وهكذا تتضمن الحداثة العالم القروسطوي. فالاختلاف بين الحديث والقروسطي من جهة، وبين العالم القديم من جهة ثانية، أعيد تأويله حوالي 1800 م كاخـتلاف بين الرومانسي والكلاسيكي. وبالمعنى الضيق كانت الرومانسية تعني حركة الفكر والشعور التي استهلها روسو. وبالطبع فالرومانسية تبدو حديثة أكثر من الكلاسيكية بمختلف تلاوينها.
لعل الوثيقة الأعظم التي تعبر عن الصراع الخصب بين الحداثة والعالم القديم، مفهوما كصراع بين الرومانسي والكلاسيكي، هي ديوان الشاعر الألماني غوته (Goethe) : فاوست (Faust). لقد دعي فاوست من طرف الرب ذاته "رجلا طيبا" وهذا الرجل الطيب يقترف جرائم رهيبة خاصة أو عامة على السواء. لن أتحدث عن واقع كونه يكفر عن ذلك بإنجاز عمل ذي مصلحة عامة أي عمل يمكنه من مواصلة طريقـه على أرض حرة بمعية قوم أحرار. وان هذا العمل السياسي الصالح ليس إجراميا أو ثوريا بل شرعيا بمعنى الكلمة : لقد أصبح العمل ممكنا بواسطة حصوله على إقطاعية من الإمبراطور الألماني. وسأقتصر بالتأكيد على أن طيبوبة فاوست ليست فضيلة بدون شك. أي أن الأفق الأخلاقي لأشهر مؤلفات غوته قد تم فتحه من طرف روسو. صحيح أن طيبوبة فاوست لا تتطابق مع المعنى الذي يعطيه روسو لهذه الكلمة. ففي الوقت الذي تنسجـم فيه طيبوبة روسو مع الامتناع عن الفعل ومع نوع من الراحة ، فإن طيبوبة فاوست هي كفاح لا متناه، وعدم ارتياح وعدم اقتناع بكل ما هو متناه ومنته ومكتمل أي "كلاسيكي". ما يجسده فاوست بالنسبة للحداثـة ، أي الطريقة التي يدرك بـها الإنسان الحديث نفسه كإنسان حديث قد أعطيت اعتبارا خاصا من طرف اشبنغلر الذي دعا الإنسان الحديث بالإنسان الفاوستي. ويمكننا أن نقول أن اشبنغلر عوض كلمة "رومانسي" بكلمة "فاوستي" في معرض وصفه لخاصية الحداثة.
وبما أن الموجة الثانية للحداثة تنتسب إلى روسو فالموجة الثالثة تنتسب إلى نيتشه. فروسو يجابهنا بتناقض الطبيعة من جهة، وبالمجتمع المدني والعقل والأخلاق والتاريخ من جهة أخرى. بحيث إن الظاهـرة الأساسية هي الإحساس بالوجود البهيج، أي الاتحاد والمشاركة في الطبيعة . وهو جزء لا يتجزأ من الطبيعة بما هي متميزة عن العقل والمجتمع. ويمكن أن توصف الموجة الثالثة للحداثة بأنها تقوم على أساس فهم جديد للشعور بالوجود : وهذا الإحساس هو تجربة الرعب والمعاناة بدل الانسجام والسلام. وهو كذلك إحساس بالوجود التاريخي باعتباره مأساويا بالضرورة. وهكذا يبـدو المشكل الإنساني لا حل له بالفعل كمشكل اجتماعي كما قال روسو : إذ لا توجد ثمة إمكانية للهروب من الإنساني إلى الطبيعي ولا إمكانية تحقيق السعادة المثلى بل إن أقصى ما يستطيع الإنسان الوصول إليـه لا علاقة له بالسعادة أصلا.