عدد الرسائل : 533 البلد : Yiebna الوظيفة : Critic تاريخ التسجيل : 12/07/2007
موضوع: يوميات محمود درويش الأحد سبتمبر 16, 2007 3:16 pm
حمام
رفٌ من الحمام ينقشع فجأة من خلل الدخان. يلمع كبارقةِ سلْمٍ سماوية. يحلِّق بين الرماديّ وفُتَات الأزرق على مدينة من ركام. ويذكّرنا بأنَّ الجمال ما زال موجوداً، وبأنَّ اللاموجود لا يعبث بنا تماماً إذ يَعِدُنا، أو نظنُّ أنه يَعِدُنا بتجلِّي اختلافه عن العدم. في الحرب لا يشعر أحد منا بأنه مات إذا أَحس بالألم. الموت يسبق الألم، الألم هو النعمة الوحيدة في الحرب. ينتقل من حَيٍّ إلى حَيّ مع وقف التنفيذ. وإذا حالف الحظُّ أحداً نسي مشاريعه البعيدة وانتظر اللاموجود وقد وُجد محلِّقاً في رفّ حمام. أرى في سماء لبنان كثيراً من الحمام العابث بدخان يتصاعد من جهة العدم!
البيت قتيلاً
دقيقةٍ واحدة، تنتهي حياةُ بيت كاملة. البيت قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعيٌّ حتى لو خلا من سكانه. مقبرةٌ جماعيَّةٌ للمواد الأولية المُعَدَّةِ لبناء مبنى للمعنى، أو قصيدةٍ غير ذاتِ شأْنٍ في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر، وحاجَةُ التراجيديا إلى تصويب البلاغة نحو التبصُّر في حياة الشيء. في كل شيء كائنٌ يتوجّع... ذكرى أصابع وذكرى رائحة وذكرى صورة. والبيوت تُقْتَلُ كما يقتل سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرة الأشياء: الحجر والخشب والزجاج والحديد والاسمنت تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب تتمزق كالكلمات التي لم يتسنّ لأصحابها أن يقولوها. وتنكسر الصحون والملاعق والألعاب والأسطوانات والحنفيات والأنابيب ومقابض الأبواب والثلاَّجة والغسّالة والمزهريات ومرطبانات الزيتون والمخللات والمعلبات كما انكسر أصحابها. ويُسحق الأبيضان الملح والسكر والبهارات وعلب الكبريت وأقراص الدواء وحبوب منع الحمل/ والعقاقِير المنشطة وجدائل الثوم والبصل والبندورة والبامية المجففة والأَرُزُّ والعدس كما يحدث لأصحابها. وتتمزق عقود الإيجار ووثيقة الزواج وشهادة الميلاد وفاتورة الماء والكهرباء وبطاقات الهوية وجوازات السفر والرسائل الغرامية كما تتمزّق قلوب أصحابها. وتتطاير الصور وفُرَشُ الأسنان وأمشاط الشَعْر وأدوات الزينة والأحذية والثياب الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية تُنْشَرُ على الملأ والخراب. كل هذه الأشياء ذاكرة الناس التي أفرغت من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أفرغت من الناس... تنتهي بدقيقة واحدة. إن أشياءنا تموت مثلنا، لكنها لا تدفن معنا!
البنت /الصرخة
على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهلٌ وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتانِ وبابْ... وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ يسقطون على الرمل. والبنتُ تنجو قليلاً لأنَّ يداً من ضبابْ يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا! لم يُجِبْها أَبوها المُسَجَّى على ظلِّهِ في مهبِّ الغِيابْ دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية، لا صدى للصدى. فتصير هي الصَرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ عاجل لم يعد خبراً عاجلاً عندما عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ!.
مكر المجاز
مجازاً أقول: انتصرتُ مجازاً أقول: خسرتُ... ويمتد وادٍ سحيقٌ أمامي وأَمتدّ في ما تبقّى من السنديانْ وثمّة زيتونتانْ تلُمَانني من جهاتٍ ثلاثٍ ويحملني طائرانْ إلى الجهة الخاليةْ من الأوج والهاويةْ لئلا أقول: انتصرتُ لئلا أقول: خسرتُ الرهان!
بقية حياة
إذا قيل لي: ستموتُ هنا في المساء فماذا ستفعل في ما تبقَّى من الوقتِ؟ ـ أنظرُ في ساعة اليد/ أشربُ كأسَ عصيرٍ، وأَقضم تُفَّاحَةً، وأطيلُ التأمُّلَ في نَمْلَةٍ وَجَدَتْ رزقها، ثم أنظر في ساعة اليدِ/ ما زال ثمَّة وقتٌ لأحلق ذقني وأَغطس في الماء/ أهجس: "لا بُدَّ من زينة للكتابة/ فليكن الثوبُ أزرق"/ أجْلِسُ حتى الظهيرة حيّاً إلى مكتبي لا أرى أَثر اللون في الكلمات، بياضٌ، بياضٌ، بياضٌ... أُعِدُّ غدائي الأخير أَصبُّ النبيذ بكأسين: لي ولمن سوف يأتي بلا موعد، ثم آخذ قَيْلُولَةً بين حُلْمَينْ/ لكنّ صوت شخيري سيوقظني... ثم أَنظر في ساعة اليد: ما زال ثمّةَ وَقْتٌ لأقرأ/ أقرأ فصلاً لدانتي ونصْفَ مُعَلَّقَةٍ وأرى كيف تذهب مني حياتي إلى الآخرين، ولا أتساءل عَمَّنْ سيملأ نقصانها ـ هكذا ؟ ـ هكذا ، هكذا ـ ثم ماذا ؟ ـ أمشّط شَعْري، وأرمي القصيدة... هذي القصيدة في سلة المهملات وألبس أحدث قمصان إيطاليا، وأُشَيّع نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا ثم أمشي إلى المقبرةْ !
البعوضة البعوضة،ولا أعرف اسم مذكرها في اللغة،أشدّ فتكاً من النميمة.لا تكتفي بمصّ الدم،بل تزج بك في معركة عبثية.ولا تزور إلا في الظلام كحمى المتنبي.تطن وتزن كطائرة حربية لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف.دمك هو الهدف.تشعل الضوء لتراها فتختفي في ركن ما من الغرفة والوساوس،ثم تقف على الحائط...آمنةً مسالمة كالمستسلمة.تحاول أن تقتلها بفردة حذائك، فتراوغك وتفلت وتعاود الظهور الشامت.تكرر محاولتك وتفشل.تشتمها بصوت عال فلا تكترث.تفاوضها على هدنة بصوت ودي:نامي لأنام!تظن أنك أقنعتها فتطفيء النور وتنام.لكنها وقد امتصت المزيد من دمك تعاود الطنين إنذاراً بغارة جديدة.وتدفعك إلى معركة جانبية مع الأرق.تشعل الضوء ثانية وتقاومهما،هي والأرق،بالقراءة.لكن البعوضة تحط على الصفحة التي تقرؤها،فتفرح قائلاًفي سرّك: لقد وقعت في الفخ.وتطوي الكتاب عليها بقوة:قتلتها...قتلتها!وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك لا تجد البعوضة،ولا تجد الكلمات.كتابك ابيض.البعوضة،ولا اعرف اسم مذكرها في اللغة،ليست استعارة ولا كناية ولا تورية.إنها حشرة تحبّ دمك.تشمه عن بعد عشرين ميلاً.ولا سبيل لك لمساومتها على هدنة غير وسيلة واحدة هي:أن تغير فصيلة دمك
ماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرج على حريق لبنان؟ عيناه زائغتان من النشوة، ويمشي كالراقص في حفلة عرس:هذا الجنون،جنوني،سيّد الحكمة،فلتشعلوا النار في كل شيء خارج طاعتي.... وعلى الاطفال أن يتأدبوا ويتهذبوا ويكفوا عن الصراخ بحضرة أنغامي! وماذا يدور في بال نيرون،وهو يتفرج على حريق العراق؟يسعده أن يوقظ في تاريخ الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عدواً لحمورابي وجلجامش وأبي نواس:شريعتي هي أم الشرائع.وعشبة الخلود تنمو في مزرعتي. والشعر، مامعنى هذه الكلمة؟ وماذا يدور في بال نيرون،وهو يتفرج على حريق فلسطين؟يبهجه أن يدرج اسمه في قائمة الأنبياء نبيّاً لم يؤمن به أحد من قبل.نبياً للقتل كلفه الله بتصحيح الاخطاء التي لا حصر لها في الكتب السماوية:"أنا أيضاً كليم الله"! وماذا يدور في بال نيرون وهو يتفرج على حريق العالم؟"أنا صاحب القيامة" ثم يطلب من الكاميرا وقف التصوير،لأنه لا يريد لأحد أن يرى النار المشتعلة في أصابعه في نهاية هذا الفيلم الأميركي الطويل
[/size]
فلسطينية
(( عضو وسام الشرف ))
عدد الرسائل : 664 العمر : 40 البلد : فلسطين الوظيفة : بدون تاريخ التسجيل : 30/07/2007
موضوع: رد: يوميات محمود درويش الأحد سبتمبر 16, 2007 3:55 pm
مشكور اخ كنعان و يعطيك الف عافية على مجهودك الطيب
kanaan
{{}} مشرف {{}}
عدد الرسائل : 533 البلد : Yiebna الوظيفة : Critic تاريخ التسجيل : 12/07/2007
موضوع: رد: يوميات محمود درويش الإثنين سبتمبر 17, 2007 8:25 am
مشكورة اخت فلسطينية على مرورك الطيب ,,,,,
sef060
{{}} مشرف {{}}
عدد الرسائل : 428 تاريخ التسجيل : 12/07/2007
موضوع: رد: يوميات محمود درويش الإثنين سبتمبر 17, 2007 3:52 pm
مشكور اخ كنعان
ابو جهاد
{{}} مراقب {{}}
عدد الرسائل : 1843 العمر : 44 البلد : فلسطين الوظيفة : بأبحث على وظيفة تاريخ التسجيل : 11/07/2007
موضوع: رد: يوميات محمود درويش الإثنين سبتمبر 17, 2007 10:27 pm
مشكور اخ كنعان تحياتي الك على مجهودك يا حج
عاشق الوطن
(( عضو مشارك ))
عدد الرسائل : 15 العمر : 44 البلد : فلسطين الوظيفة : بدور على شغل تاريخ التسجيل : 16/09/2007
موضوع: رائع الاختيار الثلاثاء سبتمبر 18, 2007 3:04 am
ـ ثم ماذا ؟ ـ أمشّط شَعْري، وأرمي القصيدة... هذي القصيدة في سلة المهملات وألبس أحدث قمصان إيطاليا، وأُشَيّع نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا ثم أمشي إلى المقبرةْ !
كنعان احسنت الاختيار وأن دل فهو يدل على روعة زوقك تحياتى قرأتها بتمعن فتحياتنا لمحمود درويش