الشعرية الصوفية
يردّ بعض الصوفيين كلمة الصوفية إلى كلمة "الصوف" كمرجعية بسيطة تناسب نسبتها اللغوية أو للبسهم إياه. لكن نسبتها إلى الكلمة اليونانية "صوفيا" Sophia التي تعني "الحكمة" يبدو أقرب إلى الصواب، بل إلى المنطق الصوفي ذاته.[i] فلقب "الصوفي" الذي أطلق أوّل ما أطلق على أبي هاشم الكوفي، المتوفى عام 150ه/768م،[ii] ربما كان يقصد به الحكيم؛ وباعتبار أن الصوفية العربية أخذت بمبدأ الاتحاد والحلول، كان من المرجح أن يجعل مريدوها من صوف الماعز محلاً حسياً لدلالتها المعنوية للتقارب اللفظي بينهما، بما يفسر لبسهم للصوف في مراحلهم المبكرة أكثر من أي سبب آخر. ومع ذلك ينبغي عدم إغفال الأسباب المقاربة مثلاً بين صوف الكبش والتضحية بالنفس، وخاصة عند الصوفية المحاربة.
هذا التوقف الشكلاني لاشتقاق مصطلح الصوفية قد يماثله الإشارة إلى تاريخها الممتد منذ ما يزيد على ألف عام (منذ سنة 100 للهجرة تقريباً[iii])؛ وهو تاريخ كاف ليماثل شعريَّتها مع الشعر المكتوب خلال هذا الزمن المديد تأثُّراً ومحاكاة تقليدية لمختلف اتجاهاته وأغراضه،[iv] بما يفقِد المصطلح دلالته الشعرية، محيلاً إياه إلى مجرد أسلوب ترميزي، له دوافعه الوقائية، احتراساً من أعداء الصوفية أن يطَّلعوا على أسرارها، أو له أسبابه الإبداعية، كالقول بقصور اللغة عن استيعاب المعاني العلوية والمجردة.[v] غير أن أياً من المسوِّغَيْن لا يقدِّم فهماً للشعرية الصوفية باعتبارها رؤية للوجود أساساً، كان لها تعبيرها المتباين بين تجربة وأخرى، أو بين شاعر وآخر.
الشعرية الصوفية
ترى الصوفية أن الكون على ثلاث مراتب: "علوية، وهي المعقولات، وهي مرتبة للمعاني المجردة عن المواد التي من شأنها أن تدرك بالعقول. وسفلية، وهي المحسوسات، من شأنها أن تدرك بالحواس. وبرزخية، ومن شأنها أن تدرك بالعقل والحواس، وهي المتخيَّلات، وهي تشكل المعاني في الصور المحسوسة."[vi] وأيّ مريد للصوفية سوف يجاهد للسموّ من العالم السفلي المحسوس إلى العالم العلوي المعنوي بهدف المكاشفة والمشاهدة فالاتحاد بالذات الإلهية الكبرى. لكن ذلك نادراً ما يتم إلا عن طريق عالم البرزخ الذي هو تركيب من العالمين الحسي والمعنوي، وهو عالم شبيه بالحلم ما دام يعيشه الصوفي ذاتياً، أو وفقاً لمقامه الذي استطاع الوصول إليه.[vii]
بعبارات أخرى، إن الصوفية لا تتحقق من خلال هذا العالم المحسوس أو وفقاً لقوانينه الطبيعية، وإنما يبدأ وجودها مع عالم البرزخ الخيالي، وصولاً إلى العالم المعنوي. وهي، بتبنِّيها لمبدأ الرياضة والمجاهدة، غير متماثلة عند جميع الصوفيين، بل إنها، حين تؤكِّد على وجود موضوعي للعالم الخيالي وللعالم المعنوي، فإنها تؤكد من جهة أخرى على ذاتية مريديها في رؤيتهم للكون، وعلى تمايز طرائقهم في ذلك.
تأسيساً على هذه الرؤية وحدها يمكن مقاربة الشعرية الصوفية على أنها تجربة ذهنية قد تسبقها أو ترافقها تجربة جسدية ليس غايتها التعبير عن المحسوس بأية طريقة، وإنما على النقيض من ذلك – أو على الأقل ليس غايتها سوى تهيئة النفس للدخول إلى عالم الخيال الحقيقي.[viii] وهكذا لا يكون الشعر "صوفياً" إلا حين صدوره عن مرتبتي البرزخ والمعاني المجرّدة، أو عن التجربة المفضية إليهما. وبهذا سوف تفترق الصوفية العربية، كمصطلح، عن مرجعيَّتها اليونانية، فلا يكون للحكمة أو للزهد أو للحب أو لأيّ موضوع آخر صلة جوهرية بها حتَّى ولو قالها المتصوفون أنفسهم. بل إن في أدبيات الصوفية وأقوالها ما يميز بين ما هو صوفي وما هو غير ذلك، حتى في الأشعار الصادرة عن مرتبة الخيال أو البرزخ.[ix] بل إن ابن عربي جعل من هذا التمييز سبباً من أسباب الرياضة والمجاهدة.[x] لذلك لن يكون إغفال الحديث عن الموضوعات الصوفية وتقاطعاتها مع الموضوعات العامة تقليلاً من أهميتها بقدر ما هو محاولة لإبراز سمات الشعرية الصوفية المميِّزة لها عن جماليات الشعر العربي المعروفة، علماً أن الصوفية اتكأت على هذا الشعر إلى أقصى حدّ ممكن.
ثم إن القول بتماهي الشعرية الصوفية ورؤيتها لا يعني بالضرورة أن كل من تبنَّى هذه الرؤية هو شاعر لذلك. فليس كل الصوفيين شعراء، وليس كل الشعراء الصوفيين على مستوى متماثل في الإبداع والموهبة. ومادامت غاية هذا البحث هي شعرية في كافة المعايير المطروحة فيه، فإن ما يهمُّه منها سوف يتعلق بمدى الإبداع الذي حققه الشعراء بكونهم صوفيين، وليس بكونهم شعراء وحسب. وفي واقع الحال أنه كلما كان الشاعر مبدعاً وصاحب موهبة، استطاع أن يتمثل الرؤية الصوفية إبداعياً، مع ملاحظة أن عكس ذلك ليس صحيحاً دائماً. فهذا الحلاج مثلاً هو أحد أعلام الصوفية الكبار على مرّ العصور، لكنّ نتاجه الشعري، إضافة إلى قلته، لا يشكِّل قيمة إبداعية توازي تجربته الوجودية والفكرية. بينما للنفَّري، مثلاً، شأن إبداعي آخر لا يقل عن منزلته الصوفية عند مريديه. لكن هذا الرأي المسبق قد لا توضحه تماماً إلا دراسة إجمالية للشعر الصوفي كله.
التقليد والتجاوز
إذا كان من المتعارف عليه أن الشعرية الصوفية لا تطرح نظرية جمالية لما هو الشعر وكيف ينبغي أن يكون، مادامت لا تولي أيّة أهميّة لفنّيته،[xi] فذلك لأنّها – كما سبق القول – فيض عن رؤية وجودية للكون أكثر مما هي رغبة بإبداع شعرية جديدة – وإن ستبدعها فعلاً. وإذا كانت بهذا المعنى تشكل قطيعة رؤيوية مع الشعرية العربية في سموِّها عن الواقع الحسي، واتخاذها لعالم الخيال منطلقاً لها، غير أنها لم تفعل ذلك دائماً على صعيد الكتابة الإبداعية. فأن يكون عالم الخيال هذا برزخاً بين ما هو حسِّي وما هو معنوي قد لا يعني عند معظم الشعراء الصوفيين سوى تحميل الأشعار الحسية دلالات معنوية قد لا تؤثر في خيال الشاعر ولا في صياغته الفنية لا من قريب ولا من بعيد. بل إن الكثير من أشعارها ليس أكثر من اقتباسات ومحاكاة شبه حرفية لأشعار الآخرين، ومن غير أية خصوصية فنية تذكر:[xii]
هل نارُ ليلى بدتْ يوماً بذي سلمِ أم بارقٌ لاح في الزوراء فالعلم[xiii]
من المفترض أن يكون هذا البيت صادراً عن مرتبة البرزخ، كونه يجمع بين ما هو حسي، وهو الظاهر من الكلام، وما هو معنوي، وهو الباطن المفترض. لكن صياغته الفنية ليست أكثر من محاكاة تقليدية للشعر الجاهلي. فهو يذكِّر بمطلع معلقة عنترة إيقاعاً ووزناً وقافية،[xiv] وهو يذكّر باحتفاء الشعر الجاهلي بذكر الأمكنة ولاسيما الوقوف على أطلالها – مطلع معلقة امرئ القيس مثلاً.[xv] أما الظاهر من معنى هذا البيت فلا يتجاوز رغبة الشاعر بدعوة ليلى له إما في موضوع ذي سلم أو في موضعي الزوراء والعلم. وأما المعنى الباطني فهو ليس أكثر من تحميل دلالي لألفاظه؛ فتكون ليلى هي الذات الإلهية، والنار والبرق إحدى تجلِّياتها. ومن الملاحَظ أن هذا التحميل لم يغيِّر في بنية البيت الفنية، فبقي على حاله تقليداً ومحاكاة للشعر الجاهلي.
لكن الشعر الصوفي في زمنه الإبداعي هو امتداد للشعر المحدث، حتى إن هناك من يعتبر أبرز أعلامه من أمثال أبي نواس وأبي تمام والمتنبي من أتباع المذاهب الباطنية المتوافقة إلى حد كبير في أفكارها مع الأفكار الصوفية. وإذا كان الشعر المحدث يماثل في فنِّيته مرتبة البرزخ على أساس أن صوره غالباً ما تقوم على بنية تجمع بين الحسي والمعنوي، فإن ما ينبغي ملاحظته أن الشعر المحدث، حتى في صوره المتخيَّلة، هو في مجمله من هذا العالم، وغالباً ما يعود بدلالاته إليه؛ بينما الشعر الصوفي حتى في اتِّكائه على الشعر المحسوس هو متعالٍ مادام يصدر عن مرتبة أعلى من مرتبة العالم المحسوس الذي يعيشه البشر والطبيعة. وهذا التعالي ربما كان افتراضياً، لكن الشعراء الصوفيين استطاعوا من خلاله أن يشكِّلوا ما يشبه المنظومة الفنيّة داخل الشعر المحدث ذاته، وذلك على الرغم من تأثرهم به وتقليدهم له:
وأرضعني ثديَ الوجود تحقّقاً فما أنا مفطومٌ ولا أنا راضعُ[xvi]
إن "ثدي الوجود" تركيب لا يُلمَح له شبيه، لا في الغزل العذري ولا في الغزل الماجن؛ إنه يدل على شبقيَّة يستطيع علم النفس الحديث أن يظهر من خلالها عقدة أوديبية صريحة،[xvii] لولا أنه تركيب صادر عن التجربة الصوفية وحدها. فهو يحيل ببساطة إلى حديث للرسول يشبِّه فيه العلم باللبن.[xviii]
وإلى ذلك، سوف تبرز خصائص الصوفية في الشعر الموزون من خلال هذه المنظومة الفنية بشكل أوضح حين تفعيلها للتجربة الذهنية بما لا سابق له في الشعر العربي، وخاصة حين صدوره عن مرتبة المعقولات والاتحاد بالذات الكبرى. غير أنه ينبغي عدم التفاؤل كثيراً؛ فمع أن هذا الشعر أنتج الكثير من الإلماحات غير المألوفة في العقلية العربية، إلا أنه لم يستطع، في معظم نتاجه، أن يرتقي إلى مصاف التجريد المقبول فنياً:
كلماتٌ من غير شكل ولا نطق ولا مثل نغمة الأصواتِ
فكأنّي مخاطباً كنتُ إيّاهُ على خاطري بذاتي لذاتي
ظاهرٌ، باطنٌ، قريبٌ، بعيدٌ، وهو لم تحوهِ رسومُ الصفاتِ
هو أدنى من الضمير إلى الوهم وأخفى من لائح الخطراتِ[xix]
إنّ الشاعر في صدوره عن مرتبة المعقولات يحاول أن ينزِّه الله عن أي ملمح حسّي. إنه ينقل بدقة موضوعية ماهية الموصوف وتأثيره عليه. لكن التجريد حين يأتي سوف يأتي من كون الموصوف هو معنويّ بذاته وليس نتاجاً لصياغة فنية. وربما من أجل هذا لا تقدم إشراقات الصوفية أية كشوف فنية؛ فهي، في معظمها، محاكامات وشروحات لما هي عليه هذه المرتبة بما يفقدها الكثير من المقومات الشعرية.[xx] وليس الشطح الصوفي، ولاسيما المنظوم منه، ببعيد عن ذلك؛ إذ إن الشاعر حين وصوله إلى مرتبة الاتحاد لا يفعل أكثر من الاحتفاء بذاته وغنائها:
أنا مَنْ أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا[xxi]
فهذا الغناء، لطبيعته الحلولية، يحيل إلى الشاعر ذاته، فتبقى بذلك لحظة الكشف غائبة، بل من المستحيل معاينتها مادام أن ما يراد كشفُه هو معنوي ومجرَّد في ذاته أيضاً. وربما أقصى ما استطاعت أن تبدعه الصوفية في تكوينها لمرجعيَّتها الرؤيوية هو الإبداع من داخل منظومتها المستعارة من الشعرية المنجزة، بعد تجريدها ذهنياً، وإدخالها في منظومة الدلالات الصوفية المتفق عليها مسبقاً:
أباحتْ دمي إذ باح قلبي بحبِّها وحلَّ لها في حكمها ما استحلّتِ
وما كنت ممَّن يظهِر السرّ إنما عروس هواها في ضميري تجلَّتِ
فألقت على سرِّي أشعة نورها فلاحتْ لجلاسي خفايا طويَّتي
ومن عجبٍ أن الذين أحبهم وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنَّة
سقوني وقالوا: لا تغنِّ ولو سقوا جبال حنينٍ ما سقوني لغنّتِ[xxii]
إن تركيب "عروس هواها" لا يمكن أن يخطر على بال المتأمِّل فيما هو حسي أو برزخي، ذلك أنه نتاج معرفي محض. فالضمير "ها"، صحيح أنه يعود إلى الخمرة، لكن من غير المتعارف عليه أن تكون المحبة بتأثيرها، وإنما يكون للحبيبة تأثير يشبه تأثير الخمرة المسكر. ولولا تماهي دلالة الخمرة بدلالة المعرفة في ذهنية هذا الشاعر لما توصل إلى إبداع مثل هذا التركيب. بل إن الأبيات كلَّها تنشئ علاقة بنيوية بين العالمين الحسي والمعنوي يكون فيها الأول تابعاً للثاني على غير ما هي الحال عادة.
التجديد والريادة
بعد ذلك يبدو أن السبل المنجزة قد ضاقت بالشعرية الصوفية. فهي حتى الآن قد أقامت رؤيتها الوجودية في جانب واستعارت رؤيتها الفنية من جانب آخر. لذلك كان جديراً بها أن تعمل أكثر من أية حركة شعرية أخرى على خلخلة جماليات الشعرية العربية ومفاهيمها، فطرحت مسألة العروض على طاولة البحث،[xxiii] وقامت جدياً بالخروج عن منظومة الأوزان الخليلية عبر تكسيرها ورفض الالتزام التام بقوانينها.[xxiv] وكانت حجَّتها في ذلك – كما هي دائماً – التسامي عن أي توجُّه فني لإبداعها:
شعرُنا هذا بلا قافية إنما قصدي منه حرف ها
غرضي لفظةُ ها من أجلها لست أهوى البيع إلا ها وها[xxv]
فمع أن الشاعر يكتب هذا الشعر موزوناً ومقفَّى، إلا أنه يخلع القداسة عنهما ليطرح إمكانية الإبداع من غير قافية. وربما لم يكن التزامه بها، أو بالشعر الموزون عامة، إلا لشغفه الغنائي بالذات المطلقة، بما يجعله يكرِّر حرف الهاء الدال عليها. لكن كل هذا التبرُّم من الأوزان والقوافي تم فعلاً بعيداً عن الصوفية ورؤيتها.[xxvi] وإنما جاء هذا التمهيد للتأكيد على أن الشعراء الصوفيين لم يتخذوا مواقفهم الجمالية من الشعر السابق لهم اعتباطياً ومن غير دراية به؛ وليؤكد أيضاً على أنهم طالما عملوا على ابتكار شعرية جديدة تنسجم مع رؤيتهم إلى الكون، بما يفارق الشعرية القديمة تماماً.
وربما لم يصل هذا العمل إلى مبتغاه من التحقق والانسجام إلا حين تخلى الشعراء الصوفيين عن الشعر الموزون جملة وتفصيلاً، لأنهم بذلك بدؤوا مرحلة جديدة من الإبداع ربما لم تعرفها الشعرية العالمية من قبل. ومن هنا قد يكون غياب المصطلح النقدي، أو عجزه عن توصيف شعرية تلك المرحلة في حينه، دلالة على أصالة هذا العمل وابتكاره. فالشعر النثري أو قصيدة النثر أبداً لم تكن غريبة عن الشعرية العربية، وأي منصف لهذه الشعرية لابد أن يعود إلى الشعر الصوفي ليتحقق من أنها إحدى إنجازاته.
غير أن القول لا ينبغي أن يذهب بعيداً جداً، ولا ينبغي له، في الوقت نفسه، أن يقلِّل من أهمية الريادة الصوفية. بل إن هذه الريادة هي ما يدعو للتريث في إطلاق التوصيف، يدعو للتريث وحسب. فالنقد مطمئن لإنجاز لا يدعو للشك في شعريَّته النثرية. إنّ مواقف النفّري ومخاطباته كافيتان وحدهما لمثل ذلك.
لكن مواقف النِّفَّري ومخاطباته، وحتى شطحات البسطامي والشبلي، هي عناوين دلالية، موضوعاتية، وليست توصيفات نوعية لأشكالها. لذلك، ومثلما يحاول هذا البحث أن يردّ للصوفية ما لها من ريادة في إبداع قصيدة النثر، يجب الاعتراف، في المقابل، أن مصطلح "قصيدة النثر" هذا هو إبداع فرنسي. لكن مثلما أن إبداع المصطلح لا يعني إبداع القصيدة،[xxvii] فإن ما ينبغي اكتشافه أو إعادة الاعتبار إليه في الشعرية الصوفية ليس لبنة أولى، أو شيئاً يشبه قصيدة النثر، بل هو قصيدة النثر ذاتها. إضافة إلى ذلك، لا يلزِم الاعتراف بأسبقيَّة إبداع المصطلح على الأخذ بمضمونه مادام قد صار للنقد العربي رأي في ماهية قصيدة النثر وتعريفها على أنها كل شعر خال من الوزن والقافية.[xxviii] لكن الانطلاق من هذا التعريف قد لا يكفي بمفرده هنا للتمييز بين ما هو شعري، في تلك العناوين، وما هو نثري لا قيمة إبداعية أو شعرية له. وربما إشكالية التمييز هذه أكثر ما تبرز في النصوص "الشطحية"، أو فيما يرد تحت اسمها. فالشطح في صدوره عن مرتبة الاتحاد سوف يقال بشكل ارتجالي، لاإرادي، ويكون تعبيره، في هذه الحالة، منظوماً غالباً، كقول الحلاّج السابق. لكن معظم شطحات البسطامي، مثلاً، مرويَّة بطريقة نثرية، وهذه الرواية النثرية قد لا تقلل من شعرية الشطح بقدر ما تدل على نوعيَّتها كقصيدة نثر؛ إذ إن هذه القصيدة لم تُسَمَّ كذلك لتخلِّيها عن الوزن والقافية فقط، وإنما لاشتراكها مع الأنواع النثرية الأخرى في أشكالها الخارجية أيضاً، لكن بما لا يخلّ بشعريَّتها وبنيتها كقصيدة[xxix] - الشيء الذي سوف تدل عليه النصوص الإبداعية، وإنْ على نحو متباين:
رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد! إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيِّني بوحدانيَّتك، وألبسني أنانيَّتك، وارفعني إلى أحديَّتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك. فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك.[xxx]