لقد ترسخ في الفهم منذ كانط استحالة تأسيس حقوق الإنسان انطلاقا من عالم الحياة، ومن تصور للخير أو للدين أو الثقافة، وهذا ما يرتد في الواقع إلى الاختلاف مع فكرة الاستقلالية، وإلى إضفاء طابع تبعي على الإنسان، وإلى التفكير في الإنسانية انطلاقا من فكرة الخير وتحت مراقبتها، وباختصار انطلاقا من ميتافيزيقا جوهرانية، سنقول عندها أن حقوق الإنسان استلزمت لكي تظهر في الأفق الفكري لتاريخنا قطيعة معينة مع الميتافيزيقا (مع الأولية "المعرفية" للخير عن الحق Juste). إلا أن وضعية ما بعد الميتافيزيقيا لا تؤدي ضرورة إلى ريبة ذات نزعة تفكيكية: وإنما تؤدي بالأحرى –إذا ما وضعنا الفرضيات التداولية الكونية محط نقاش- إلى كونية مطهرة من الخصوصيات الثقافية ومنبثقة منها. إن فلسفة حقوق الإنسان القائمة بشكل كبير على التصور الكانطي للاستقلالية، تجد نفسها في نهاية المسار وقد أعيد بناؤها –بشكل مفارق- على نحو هيجيلي.
هكذا نستطيع وضع سؤال "حقوق الإنسان والثقافة(ات)". ففي البداية كان الاعتراض يصاغ على النحو التالي: فإما أن حقوق الإنسان تتموضع بعيدا عن التجذرات الجزئية، فيلغي تجريدها كل فعالية وكل قيمة إنسانية، وكل خاصية معيشة. وهذه في العمق، مع بعض التعديل، هي حجة هرمان كوهن الذي عاد إلى الطابع الملموس للديانة اليهودية، ضد تجريدية الدين الكانطي "في حدود العقل وحده". وإما يجب تجذيرها داخل ثقافة جزئية، وبالتالي فلن تتجاوز قيمتها أفق هذه الأخيرة (مثلا، حجة أولئك الذين يدافعون على الاستئصال والتطهير باسم شفرة ثقافية "مغايرة"). والحل المقترح سيكون كما يلي: إن "ثقافة" حقوق الإنسان تنبثق من عوالم الحياة كشيء مختلف، أي ما دعاه سارتر في مرحلته الهيجيلية بالكوني الملموس. وبالطبع إن هذا الانبثاق ليس ميكانيكيا أو مقدرا بشكل مسبق: إذ لا يتعلق الأمر بالسقوط مرة أخرى في النقاش القديم داخل الأوساط الماركسية بين الحتمية المطمئنة والإرادية "الميكيافيلية"، بل إن الأمر يتعلق بجبهة قوة، وبنزوع شاق للتحديث يمكن الارتكاز عليه دون المبالغة في التوهم حول حظوظ الإنجاز: وهابرماس باعتباره وريثا جامحا لمدرسة فرانكفورت، يعرف أكثر من أي كان مخاطر العقلانية الأداتية المهيمنة، وباختصار مخاطر "النظام"، فهناك رهانات متعددة للتحديث، بحيث تشكل ظاهرة معقدة، كما انتبه إلى ذلك جيدا آلان رونوفي في سياق مغاير (L’ère de l'individu)، حيث يحاول هو الآخر إقصاء رؤية خطية للحداثة.
حقوق الإنسان والديمقراطية:
هناك سؤال حاسم يتعلق بالعلاقات الإشكالية بين حقوق الإنسان والديمقراطية. فقد رأينا أعلاه أن النزعة الأساسية لتطور مجتمعاتنا تكمن في الأولوية التي أعطيت بوضوح لحقوق الإنسان عن الديمقراطية، وبالفعل فإن المراقبة الدستورية حينما تسهر على الأقل على حقوق الإنسان (وإعلان 1789 يعد في فرنسا جزءا مما يدعوه المجلس الدستوري "بالكتلة الدستورية")، فإن ذلك قد يفيد إلغاء ترتيبات صوت عليها من طرف أغلبية منتجة بشكل منتظم. هكذا نستطيع النظر إلى فعل قضاة حقوق الإنسان كتحديد قسري للفضاء السياسي الديمقراطي، أي لقرارات الأغلبية. وهذا التحديد يجب بالتأكيد أن يعتبر كتقدم هائل: إذ أن الأغلبيات بإمكانها أن تضل، ولذلك فاقتضاء مجموعة من الحواجز يبدو بينا بذاته، ورغم ذلك، فإن حجة ضعف الإرادة ذات الأغلبية أخذت في أغلب الأحيان، في تاريخ الأفكار السياسية، أوصافا أرستقراطية، أي وجوب تحديد "الأفضل"، فضاء الحرية، باسم مبادئ عليا (العقل، الدين، الحزب الخ). وهكذا إن ما يتغير في إطار المراقبة الدستورية، ليس على الخصوص "طبيعة" التحديد: فالقضاة يمكنهم أن يظهروا للبعض أنهم يشكلون "أرستقراطية" جديدة، بل ما تغير بالأحرى هو الوضعية الفلسفية ومضمونها. إذ يتعلق الأمر والحالة هذه، ليس بحرمان الأغلبية من جزء من حقوقها باسم مبدإ جوهراني منافس (كما هو الحال في نماذج "الدستور المشترك" بداية من أرسطو إلى الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية)، وإنما بقياسها حسب شروط مبدإ صوري… متعال للاستقلالية. وبهذا المعنى "فالإصلاح" الذي يفرضه قاضي حقوق الإنسان مهما كان المستوى الذي يتموقع فيه، يكمن في أن يفرض على إرادة ذات أغلبية أمبريقية مبنية على نقاش ديموقراطي، معرض لكل النقائص الاعتيادية، مبدأ الاستقلالية الذي كانت دائما تفترضه، رغم أنها قد تجازف في الواقع بخرقه. نستطيع القول في حالة كهذه بأن أغلبية ما –وهذا بالتأكيد يمكن دائما حدوثه- حين تأخذ قرارا مخالفا لحقوق الإنسان، فإنها ستكون سجينة تناقض كفائي "Contradiction performative"، أي لعدم الانسجام بين المضمون السميائي للقرار الذي أخذته، والشروط التداولية للنقاش الذي تدخل فيه. وللتعليل "الهابرماسي" لمراقبة الدستورية إغراؤه بالتأكيد، وذلك لكونه يقيك تصالحا بين حقوق الإنسان والديمقراطية باسم إتيقا النقاش. (Habermas, Factitat und Geltung, 1993). لكن يظل هناك مشكل أساسي: إذ أن النقاش الديمقراطي وقرار الأغلبية يتم في مستوى السياسة، أي مثاليا في مستوى نشاط المواطن والشيء العام (التزام الكل لصالح "شيء" الجميع)، بينما يتم احترام حقوق الإنسان في مستوى نشاط قاض أو قضاة. ولكن إذا فسدت الحياة الديمقراطية، ألن يجد القضاة أنفسهم وقد أوكل إليهم دور أرستقراطي بامتياز، والمتمثل في أخذ قرار يتعلق بالمشاكل الأساسية، بحيث لن يتركوا لسلطة الأغلبية سوى ما يفتقد للجدية وما لا يرتبط بالرهانات الحقيقية للمجتمع؟ وهذا التوجه قد لوحظ في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، كما أنه يثير ردود فعل عنيفة ضد مبدإ المحكمة العليا. إننا نجد أنفسنا الآن أمام نقطة صميمية في تأمل وضعية حقوق الإنسان. إذ نستطيع في لحظة أولى أن نفهمها من خلال منظور ليبرالي: فهي بهذا المعنى تساعد في حماية الحياة والحريات الخاصة للفرد. ومن هنا فمسألة النظام السياسي الأقدر على بلوغ هذه النتيجة يبدو ثانويا. وقد وجد في تاريخ القرنين الماضيين كثير من العقول النابهة التي حاولت أن تفصل بين حقوق الإنسان والديمقراطية، في نطاق خوفهم من أن الأغلبيات الجاهلة والمغرر بها تشكل ضمانا هشا للحريات الفردية. فإما أنها ستختار استبدادا متنورا أو ستضع كل آمالها في المؤسسات القضائية التي تؤثر في سلطة الهيئات السياسية- إن موقفا من هذا القبيل يبدو منسجما بشكل تام: إذ يتعلق الأمر بحماية الإنسان الخاص (وليس السياسي) وحقوقه، بحيث تصبح مسألة المواطنة ثانوية وتختزل إلى مستوى الوسيلة المحتملة لإنجاز حقوق يلزم حمايتها. ولقد ألحت "حنة أرنت" كثيرا على هذا التصور، والذي لا يعد حسب رأيها بدعة في التاريخ الغربي: إذ أنه يرتبط بكل محاولات الحد من عسف السلطة باسم الحرية الخاصة. هكذا فإن التفكير في حقوق الإنسان سيصبح مستقلا عن مسألة السياسة بمعناها الدقيق.
إلا أننا إذ فهمنا حقوق الإنسان بمعنى ثان، أي انطلاقا من مبدإ الاستقلالية الأكثر تشددا (التشريع الخاص للقانون) فإن المنظور سوف يتغير تماما. إذ أن حقوق المواطن والحريات السياسية، في هذه الحالة، هي التي سيصبح لها شأن بارز: حيث أن الكرامة الإنسانية لا تختزل إلى فردانية، وإنما إلى مسؤولية، هي بالتأكيد خاصة في أحد جوانبها (مسألة معرفة كيف أتوجه داخل الحقل الأخلاقي باستقلالية جذرية، حيث أن سلطة الإلزام لا تعود إلا إلى ذاتي، بصفتي مشرعا وذاتا كما عبر كانط)، ولكنها عمومية كذلك من جهة ارتباطها بالحياة المشتركة، بالوجود-معا، وباختصار بالسياسة. وفي هذه الحالة فإن حقوق الإنسان لا يمكنها أن تجد نفسها منعزلة عن الممارسة الديمقراطية التي تمثل بالنسبة إليها تعبيرا لا يحد (وهذا شيء أساسي كما نعرف بالنسبة لأرنت التي تثمن، ربما من جانب واحد، حرية القدامى): يجب أن تتميز الاستقلالية جذريا عن الفردانية، كما أظهر ذلك جيدا آلان رونو. فبإمكان الاستقلالية أن تشمل هذه الأخيرة، ولكنها مع ذلك يجب أن لا تختزل إليها أبدا. وهكذا سوف يشيع نقد مألوف لحقوق الإنسان باعتبار أنها مرتبطة بإيديولوجيا ليبرالية وفردانية، في مقابل تصور "جمهوري" وديمقراطي لها. ولهذا السبب استطاع بعض الفلاسفة الأمريكيين (وعلى رأسهم "القوميان" مخاييل ساندل ومخاييل واتزر) انتقاد المؤسسة القضائية البالغة القداسة: وذلك بسبب التملص من المسؤولية السياسية ومسؤولية المواطنة والديمقراطية لصالح قضاة يبدون كما لو أنهم يرسخون نسخة فردانية لحقوق الإنسان أكثر منها "استقلالية". وهم بنقدهم هذا لا يقصدون العمل الممتاز الذي تم في الغالب إنجازه من طرف قضاة حقوق الإنسان: ولنستحضر في أذهاننا الاجتهادات القضائية المذهلة للمحكة الأوروبية لحقوق الإنسان والتطورات الحاصلة في المجلس الدستوري الفرنسي، إلا أن القضاة يجدون أنفسهم يتحملون مسؤوليات تفوق طاقتهم وذلك باعتبار ضعف القرار الديمقراطي ذاته وأفول الحكم السياسي Jugement politique.
حقوق الإنسان والاقتصاد:
يلزم دون شك تحليل المسألة الشائكة لعلاقة حقوق الإنسان بالنظام الاقتصادي الاجتماعي من خلال منظور متداخل. إذ غالبا ما تم ربط فكرة حقوق الإنسان بالرأسمالية وبالأفكار البرجوازية و"الفردانية التملكية" (ماكفرسون)، والماركسيون هم أول من فعل ذلك. ويجب التمييز، كما أشرنا سابقا، داخل النقد الماركسي بين لحظتين: ففي كتاب المسألة اليهودية (1843)، ينتقد ماركس بحدة حقوق الإنسان من حيث أنها تعبير عن الأنانية: إذ يتأهم من "الحرية-الحد"، أي النظر إلى المجتمع المدني كفضاء يتشكل من حقوق مغلقة، ويربط بهذا الافتراض فكرة دولة مصطنعة وخارجية، لا تتمكن من توحيد مجتمع ذري على هذه الشاكلة إلا من الخارج، من خلال الإكراه: فالمال والدولة يسيران جنبا إلى جنب، وتفكك الجماعة (باسم التحفظ على ما يدعوه ماركس "حس الملكية" في مخطوطات 1844) الذي يتولد عن المال يتضمن ضرورة الاستلاب السياسي والدولة كهيئة خارجية و"كدعامة". ولن يميز ماركس إلا لاحقا هذه اللحظة الأولية من النقد عن التشهير بالاستغلال، أي بالتباينات التي تتولد عن الرأسمالية واغتصاب الشغل غير المؤدى عنه (Surtravail) من طرف الطبقة المهيمنة، وذلك في تناقض مع مبدإ الاستحقاق ("كل حسب عمله") الذي تمت المطالبة به مع ذلك. ويمكن صياغة هذين الانتقادين على الشكل التالي: فالنقد الثاني يمكن أن يتواءم مع سوق لا يتم استغلال الشغل داخلها (مثلا على شاكلة المقاولات التي يملكها "المنتجون")، بينما يذهب النقد الأول أبعد من ذلك، إذ يلامس استلابا أكثر جذرية: فحتى دون استغلال، ودون "رأسمالية" إذا ما قبلنا على الأقل نظرية المراكمة التي تم تناولها في الجزء الأول من كتاب الرأسمال، فإن المساواة بين أطراف في سوق "كامل"، حيث يسعى المنتج إلى الرفع من أرباحه والمستهلك من "منفعته" كما يعلن عن ذلك اقتصاديو الكلاسيكية-الجديدة، ستبقي على الطابع الذري والتحفظ، وباختصار على "حس الملكية". من وجهة النظر هذه، يبدو نقد حقوق الإنسان نقدا جذريا، على الأقل إذا ما فهمنا تلك الحقوق في ارتباطها بالفردانية الليبرالية المعرفة سابقا. ولكن يجب من منظور الاستقلالية أن نرد بأن النظام الاقتصادي والاجتماعي ذاته سيأخذ طابعا أداتيا بالنسبة للديمقراطية ولحقوق الإنسان: فكلاهما يتعلقان بمعرفة ما إذا كان هذان النظامان يعملان لصالح حياة المواطنة (والحياة الخاصة) المستقلة. ونعرف أن المواقف من هذه النقطة كانت في الغالب متضاربة. فإضفاء طابع جماعي على الاقتصاد يبدو كأنما يخضع للقرار الديمقراطي سيرورات كانت خارجة على نطاقه في السابق، ولكن في نفس الوقت قد يكون تركيز كهذا للسلط الاقتصادية والسياسية مجازفة لصالح الاستبداد. وفي المقابل فإن السوق الحرة "الخاصة" قد تقصي من الحياة الاجتماعية الطلب غير القادر على الوفاء بالدين، أي أن تفرز ثنائية داخل المجتمع، ستمثل بذاتها خطرا على الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث أن المهمشين لا يشعرون بأي مسؤولية عن الوجود –معا داخل عالم لا يعدهم بأي مستقبل. ولهذا فإن مسألة النظام الاقتصادي والاجتماعي تظل من منظور الاستقلالية سؤالا مفتوحا، حيث أنه من المستحيل اختزال حقوق الإنسان إلى عبارة الرأسمالي ولا حتى إلى الفردانية التملكية بوجه عام. ولهذا السبب يأخذ حق الملكية داخل مجموع حقوق الإنسان طابعا إشكاليا: فلكونه ينظر إليه كحماية ضد الاستهلاك (أو فرض الضرائب الخ) الاعتباطي، فإنه يشكل بلا نزاع امتدادا ماديا لحماية الشخص، غير أن هذا الحق بإمكانه أن يتحول إلى وسيلة للهيمنة، والتي يمكنها، كما لاحظ اشتراكيو القرن XIX أن تفرغ هذه الحقوق ذاتها من مضمونها. مرة أخرى يتوقف الأمر بأكمله على التأويل الفلسفي الذي نعطيه للامتياز: ففي الإطار الليبرالي، تلعب الملكية دورا أساسيا، حتى وإن كان من المقبول تحديد مفعولاتها من أجل إقامة تكافؤ معين للفرص (ما يدعوه راولس بالتكافؤ المنصف للفرص). وفي إطار الاستقلالية فإنها تلعب دورا ثانويا حسب تشجيعها أو دعمها للجماعة الديمقراطية لحقوق الإنسان.
يلزم إذن النظر إلى الحجج "المناهضة" لحقوق الإنسان بكيفية نقدية. فحينما شهر بورك Burke "بالمسح الجذري" الذي قامت به الثورة الفرنسية، وبمثال حقوق الإنسان، فإنه كان يستند إلى ثقافة معينة (الإنجليزية) للحريات. إلا أننا قد رأينا أنه بالإمكان عدم فصل حقوق الإنسان سواء عن عالم الحياة الملموس أو عن الحياة الديمقراطية، أو عن المسألة السوسيو-اقتصادية للتكافل المادي. ولهذا يجب الرد على انتقادات "القوميين" انطلاقا من أرضيتهم ذاتها وذلك بإظهار أن حقوق الإنسان لا تختزل إلى الليبرالية، سواء السياسية ("الحرية-العقوبة")، أو الاقتصادية (الرأسمالية و/أو السوق).