ولكن هذه الآراء هي أكثر خطورة في ميدان الإجتماع والمعاملات بين الناس نظرا لأنه تزعزع المبادئ المؤسّسة للأخلاق والدين، فعلا، إن ساوت أنطولوجيّا بين الخير والشرّ وجعلت من الفارق بينهما فارقا عرضيّا يمكن أن يتغيّر بحسب الإرادة الإلهية فإنها قد تؤدّي حتما إلى نوع من النسبوية السفسطائية وابن رشد يقصد الأشاعرة ولاهوتي الأديان الأخرى: « وأما قول من يرى... بأن أفعاله [الله] لا تتصف بالجور بل نسبة الخير إليه والشرّ نسبة واحدة، فقول غريب جدّا عن طباع الإنسان ومنافر لطبيعة الموجود الذي في غاية الخير. وذلك أنه [حسب رأي الأشاعرة] ليس ههنا شيء هو خير بذاته بل بالوضع ولا شيء هو شرّ بذاته، ويمكن أن ينقلب الخير شرّا والشرّ خيرا فلا يكون ههنا حقيقة أصلا، حتى يكون تعظيم الأوّل وعبادته إنما هو خير بالوضع. وقد كان يمكن أن يكون الخير في ترك عبادته والإعراض عن اعتقاد تعظيمه، وهذه كلّها آراء شبيهة بآراء بروتاغوراس » ويبدو أن آراء أصحاب الإرادوية، إن كانت لاهوتية أو فلسفية، هي في منتهى الخطورة على المستوى السياسي أيضا لأنها تشرّع، من حيث لا تدري، للإعتباطية وللتسلّط والظلم. ولقد ذهب ديكارت إلى أن الإرادة الإلهية ليست فقط تفرض قيم الأفعال كما تشاء بل إنها تفرض قيمة الحقيقة بحرّية ولا شيء يضبطها أو يقنّن اختيارها.
هذا حقيقة هوس ولوثة ذهنية وأعتبر أن التمسّك بهذه المبادئ ونشرها وتعليمها للناس قد يقودهم إلى التخاذل والرضا بالأمر الواقع وقد يعطي ذريعة للحاكم للتصرّف مُحاكيا أفعال الإله الإعتباطية وهو الذي عدّ نفسه دائما ظلّ الله على الأرض .
ـ الكتاب الثاني الذي أثر في المسار الفكري النيتشوي هو تاريخ المادية للفيلسوف والسياسي الإشتراكي فريدريك آلبرت لانغ (1828 ـ 1875). عن طريق لانغ تعرّف نيتشه على الفكر المادّي عند فلاسفة اليونان القدامى وعند المحدثين، وعلى نقد المعرفة عند كانط، على الداروينية ومبادئ العلوم الطبيعية الحديثة. وقد كتب قائلا « إن العمل الفلسفي الأكثر أهمية الذي برز في العقود الأخيرة هو دون شك عمل لانغ. يكفيني كانط، شوبنهاور وهذا الكتاب لـلانغ ».
لانغ رغم توجهه السياسي الإشتراكي لم يكن من أتباع المادّيّة: لقد كان يعتقد بأن المادّية في الفلسفات السابقة على كانط هي التصوّر الوحيد، التقدمي والمتماسك، الذي يمكن من خلاله تشكيل نظرة علمية للواقع. ولكن بعد كانط فإن الماديّة أصبحت نزعة ميتافيزيقية تقارب المثاليّة ويجب التخلّص منها وطرحها. انطلاقا من مسلّمات كانطيّة واعتمادا على بعض مبادئ فلسفة شوبنهاور فإن لانغ يعتبر مجموع الظواهر التي يدرسها العلم نسبية لإدراكاتنا الحسّية، ومشروطة بتكويننا الذهني المحدود والغير قادر على الوصول إلى معرفة الأشياء في ذاتها.
الجانب الإيجابي في كتاب لانغ المتمثّل في الكمّ الهائل من المعطيات التاريخية والسرد الدقيق لنظريات العلماء والفلاسفة حول المادّية حيّده إن لم يكن قد أجهض مفعوله بتبنّيه هذا الرأي الأخير الذي يشدّد على محدوديّة المعرفة الإنسانية مبدئيّا وذلك لإرتباطها الوثيق بالذات العارفة وبما ركّب فيها من قوالب ذهنية ثابتة ومحدّدة.
شوبنهاور ولانغ، في نهاية المطاف، يصبّان في نفس المصبّ ويدعّم أحدهما الآخر ومن اكتفى بالإطلاع عليهما، كما فعل نيتشه، فإنه لا يربي في ذاته إلاّ نزعات لاعقلانية وقناعات فكرية تحطّ من قيمة العلم وتعادي مبادئ العقل. لست أدري هل أن الإطلاع على كتابين أو ثلاث في الفلسفة يكفي بمفرده أن يجعل أحدنا ملمّا بتشعبات الفلسفة وبجميع اشكالاتها ومحيطا بمعضلاتها التاريخية والنظرية؟ وهل أن شيئا من هذا القبيل يُمكّن الدارس من الحيازة على عقل فلسفي نقدي تحليلي؟ لديّ شكوك في قدرة هذا المنحى في الدرس أن يربي وعيا فلسفيا متينا وأن يكوّن شخصية نظرية مكتملة.
دراسة الفلسفة هي دراسة صعبة وشاقة وتتطلّب تعمّقا ومعرفة شاملة (حتى وإن لم تكن عميقة ومفصّلة) في كثير من الاختصاصات والميادين العلمية الأخرى. والمثل الأعلى، في ذلك، يعود للفيلسوف اليوناني أرسطو (وفلاسفة الإسلام) الذي، علاوة على كونه فيلسوف ذو عقل نقدي تحليلي فقد كان يملك أيضا ذهنية تجريبية ملتصقة بالواقع، وكان ملمّا بجميع علوم عصره وقد أنتج فيها الكثير وترك آثارا خالدة.
الفلسفة، إذن، تتطلّب التزاما كاملا وتمرينا طويلا دائبا، ولا يكفي، للإلمام بها ولممارستها بالفعل، الإطلاع على بعض الكتب حتى وإن كانت مشهورة ومتداولة في زمانها. ومَن، في عصرنا الآن، عرض له أن اطّلع على الوجود والعدم للفيلسوف الفرنسي سارتر وتاريخ الجنون أو أركيولوجيا المعرفة لــفوكو فإنه حتما لا يدّعي لنفسه المسك بأسس الفلسفة ولا المعرفة التامّة بها ولا أن يصبح بدوره فيلسوفا. بل، قد تكون تلك الكتب مُظلّلة ومُفسدة للوعي الفلسفي أصلا.
***********************
1. ذكره، HORST ALTHAUS, Friedrich Nietzsche. Eine bürgerliche Tragödie. Nymphenburger, München 1985 ( trad. it. Nietzsche. Una tragedia borghese, a cura di Mario Carpitella, Laterza, Roma-Bari 1994, p. 64)
2. ARTHUR SCHOPENHAUER, Die Welt als Wille und Vorstellung, Suhrkamp, Stuttgart 1986, p. 31
3. المرجع نفسه (م. ن) ص، 33.
4. « مهما كانت طبيعة الشيء في ذاته، تبقى دائما صادقة نتيجة كانط: أنّ الزمان والمكان والسببية...ليست تعيينات للشيء في ذاته. لا تنتمي إليه إلاّ إذا أصبح ذاك الشيء تمثلا؛ بعبارة أخرى: تنتمي إلى الشيء كظاهرة فقط ولا كما هو في ذاته. فعلا، تلك الصور، بما أن الذات تعرفها وتنشؤها من ذاتها، بالإستقلال عن أي موضوع [خارجي]، يجب أن تنتمي إلى ملكة التمثّل، لا إلى ما هو متمثّلا». م. ن، ص، 183.
5. م. ن، ص، 185.
6. م. ن، ص. ن.
7. م. ن، ص، 265.
8. « يقول الإسكندر إن قول مَن يقول إنّ العناية تقع بالجزئيات كلّها، قول في نهاية الخطإ على ما يرى ذلك أصحاب الرواق. وذلك أن العناية من تلك إنما تكون من حيث هي عالمة على ما سلف. وليس يمكن أن تكون لها علوم حادثة جزئية فضلا عن أن تكون غير متناهية. والقائل أيضا بهذا يجوّر الآلهة ضرورة لأنه إذا كانت تنحو نحو تدبير شخص شخص فكيف يلحق الشخوص الشرور مع أن الآلهة تدبّره: وأعني ههنا مِن أنواع الشرور ما قد كان ممكنا ألاّ يقع به. وأما الشرور الضروري وقوعها بالشخص فلقائل أن يقول إن ذلك ليس من عند الإله لكن أكثر من يرى في أمر العناية هذا الرأي يرون أن الأمور كلّها ممكنة للإله، فذلك يلزمهم أن يجوّروه. وأمّا أن الأمور ليست كلّها ممكنة فظاهر جدّا: فإنه ليس يمكن أن يكون الفاسد أزليّا ولا يمكن أن يكون الأزلي فاسدا كما أنه ليس يمكن في المثلّث أن تعود زواياه مساوية لأربع قوائم ولا في الألوان أن تعود مسموعات، والقول بهذا ضارّ في الإنسانية جدّا». ابن رشد، رسالة ما بعد الطبيعة، تحقيق رفيق العجم وجيرار جهامي، دار الفكر اللبناني، بيروت 1994. ص، 172 ـ 173. (التشديد من عندي)
9. ابن رشد، المرجع أعلاه، ص، 173.
10. انظر في هذا المجال،
Dictionnaire de théologie catholique, T. XV. 2° partie. Paris 1950. art . Volontarisme, pp. 3309 et suiv.
11. من رسالة بعث بها إلى صديقه موشاكا سنة 1866.