عن فيروز التي صنعت زماننا كله
ننتظر شخصاً جالسها وتحدّث إليها وزارها في منزلها، إذ يبدو أن محادثتها والتقرّب إليها، تحدثان حصراً في ذلك الفضاء المنزلي. ننتظر "زائراً" وقعت عليه النعمة لكي يخبرنا المزيد عنها، ما نجهله من صورتها ومن عوالمها. وكم يسرّنا أن نعلم من هذا الزائر المحظوظ أو ذاك، أنها شخص مثلنا يحب الحياة، "عيّيش" نقول، اختصاراً لمزاج ما وطقوس عيش، هي عندها حب الضحك أولاً وأخيراً. كم نسرّ حين نعلم، بالتواتر، عن شخص ما رآها واقترب منها، أنها تضحك كثيراً وتحب "النكتة" والخفة والمرح. وهي صورة مخالفة بالنسبة إلينا، نحن جمهور المحبين والمعجبين والمدمنين لصورتها الثابتة على ملمح واحد جدّي، تمّ تأطيرها بها عبر السنوات، علماً أنها في عدد من الأداءات الحية، ولا سيما في مهرجانات بيت الدين، عبّرت عن مثل هذه الخفة، و"انحرفت" ولو قليلاً عن الوجه الثابت على ملمح واحد لا نستطيع أن نسميه عبوساً أو تجهماً، بقدر ما هو شكل أدائي اعتادت وعوّدتنا عليه.
في صورتها مكرّمة في الجامعة الأميركية قبل أيام ضحكت فيروز أيضاً ملء وجهها. لم تتكلّم، بل ألقى شخص آخر كلمتها، لكنها ضحكت، وكان هذا كافياً، لتشارك بحضور آخر نسبياً يختلف عن الصورة المألوفة المكرّسة. ضحكت لأنها من دون الغناء لا يمكنها أن تتخذ تلك الهيئة الجامدة الثابتة، فالإثنان يجيئان معاً ويكملان بعضهما: ما تغنيه بصوتها، وما تقوله بتعابير وجهها. توأما صورة فيروز الدائمين. ضحكت إذن لأنها الآن خارج الخشبة، امرأة وصاحبة إنجازات فنية، لا المغنية في لحظة الغناء نفسها. أحسب أنه على هذا النحو تقيم فيروز مثل هذا الفصل الضروري: الغناء في لحظته الحية، وليس مسجلاً، كما عهدنا في البروفات مع ابنها زياد الرحباني، حيث نجدها تضحك أيضاً، هو في حدّ ذاته كوكب، هو حيّز نفسي وعاطفي من نوع آخر. الكوكب الآخر الذي تعيش فيه فيروز هو خارج الحلبة. تضحك، أجل تضحك، حين تكون في الضفة الأخرى، في معيشها اليومي، الذي لا نحسبه مشابهاً لحيواتنا نحن، الذي يمكن أن نضجر ونسأم ونبحث عن السلوان، في قضائنا كل يوم بيومه، وكل ساعة بساعتها.
نبحث عن الخبر إذن، ليس على نحو ما يبحث مهووسو النجوم عن أخبارهم التي هي في الغالب عالمهم السري وفضائحهم، بل إننا حيال فيروز نبحث عن العادي ونرضى به: كيف تجلس، ما الذي تشربه، إلى أي وقت تشرب، هل تسهر، كيف هو منزلها، على ماذا تطل نافذتها، من هم أصدقاؤها المقرّبون؟ الخ. لا نبحث عن "لغز" ما، وإن كان البعض ينشغل به أحياناً، من قبيل كيف هي طبيعة العلاقة بينها وبين زوجها الراحل عاصي الرحباني، وما هي طبيعة الخلافات ضمن العائلة الرحبانية الواسعة؟ بعضنا يبحث عن مثل هذه الخبريات النمائمية، لكن معظمنا يرضى بالأخبار العادية ويعتبرها في حدّ ذاتها كنزاً يمكن الاحتفاء به. نذهب إلى حفلاتها ونروح على مقربة أمتار منها نتأمّل وجهها علّه يفصح عن شيء ما، شيء آخر، يقرّبنا أكثر منها، نكون دائماً على حذر، فلا نقترب من المنصة إلا حين تعطينا الإشارة بذلك، وإلا نعتبر أنفسنا نتطفل عليها ونزعجها، وهذا ما لا نريده.
ما الذي يجعلنا نريد أن نعرف عن فيروز أكثر؟ أن نعرف هذه التفاصيل العادية، اليومية، التي لا تعنينا بشيء لو تعلّقت بأي شخص آخر، فناناً أم غير فنان؟ ربما لأننا إلى هذا الحدّ نريد اكتشاف اللغز الكبير، ليس لغزها كامرأة، وهي سيدة بسيطة وواضحة على ما يجمع كثر ممن التقوها، بل لغز حضورها ومكانتها عندنا. نروح نبحث خارج الأغنيات، تحديداً لأن الأغنيات، على مر السنوات والعقود، رسمت هذه الصورة الخرافية، فنحسب أننا خارج الأغنيات سنجد جواباً عما هو غير استثنائي ولا خرافي. السؤال إذاً، ليس سؤالاً حول كيف تعيش فيروز، هو في العمق، سؤال حول روح فيروز. ما هي طبيعة هذه الروح. نفهم مثلاً أن أم كلثوم كانت صاحبة صوت هائل، وندرك مسيرتها جيداً، يحيّرنا فيها قوة هذا الصوت، أو هجنته أو عوالمه، كما يحيّرنا عالمها الداخلي المقفل، ونرغب باكتشاف أسرار ما حولها تعطينا لمحة ضوء إضافية، أما بالنسبة إلى فيروز، فالبحث دائماً ليس "تقنياً"، ليس حول القدرة، ليس حول الموهبة، ولا الذكاء في الاستمرار، ولا حول عالمها السري، وما إلى ذلك من أمور تطرح حول الفنانين، السؤال يبقى دائماً نفسه، حول روح هذه السيدة، حول جوهر غامض ما لهذه الروح.
غير أن ما يمكن إدراكه بقليل من التأمل هو أن هذه الروح الغامضة الملهمة، التي صارت ألحاناً وأغنيات، لم تكن يوماً صنيعة نفسها فقط. هذه الروح هي، على نحو ما، صنيعة زمنها أيضاً. ما نحاول دائماً النفاذ إليه هو كيف استطاعت هذه السيدة، مع كل الأسماء التي شكّلتها عبر السنوات، أن تصير صوت زمننا. صوت الزمن الراهن والماضي على حدّ سواء. فيروز هي في نهاية الأمر ذلك الصوت الملحّ، الذي يطرق باستمرار في جوانب الذاكرة، ذاكرتنا الفردية كما الجماعية، للفقدان، لكل ما هو ضائع أو في طريقه إلى ضياع مؤكّد. بمعنى ما هي صوت الطفولة المفقودة والمفتقدة، ذلك الإحساس الدائم بجنة لم تعش إلا قليلاً، ثم لم تعد ولن تعود بعد ذلك.
أتأمل زمننا قليلاً. لا أجدني مبالغاً حين أحسّ أن كل ما "صنعناه" نحن أبناء هذا الزمن، الممتد إلى جيلين أو أكثر، ما يستحق أن نقف طويلاً جداً عنده، هو هذه الظاهرة التي اسمها فيروز، تلك الكناية الرائعة عن زمننا بكل ما فيه من آلام وأحلام دافئة، وحس عميق بالفقدان. هي فيروز كلها. وليست أي "نتاج فني" آخر. سيناقش من يناقش، بغير طائل، حول "تراجع" صوت فيروز. نقاش تقني سخيف، تفوته النقطة الجوهرية: ليس ما قدّمته فيروز ربطاً بزمننا أو أزمنتنا فحسب، بل ما تقدّمه فيروز ربطاً بأزمنتنا الحالية وتلك الآتية. لعل ذلك اتخذ شكله الأصفى والأنقى في الشراكة مع زياد الرحباني، لكنه على نحو ما امتداد لمسار كامل. اليوم، نستمع إلى أغنيات عاطفية من قبيل "صباح ومسا"، أو "ولا كيف"، أو غيرها. هل نستطيع أن نستمع إلى هذه الأغنيات خارج زمنها اللبناني، تحديداً البيروتي الراهن، زمن التسعينات وما بعدها في بيروت. الأمر نفسه بالنسبة إلى "كيفك إنت". ألم يفت بعضنا، حين خاض النقاش "التقني" حول الصوت وقدراته القديمة والحديثة مثل هذا الاكتشاف البديهي؟ أن ما نسمعه الآن، هو روح زمننا ونبضه؟ هو، بامتياز، روح مكاننا أيضاً. لن يبدو ذلك واضحاً إلا حين نضعه على خلفية كل ما ينتج فنياً من حولنا وعلى امتداد العالم العربي، وبين عاصمتيه الفنيتين، أي بيروت والقاهرة، لن يكون قليل الشأن أن نكتشف أنه بين كل هذا الركام من الإنتاج الفني، الاستهلاكي أو الذي يزعم جدة وطموحاً فنيين، بين كل هذا كان هناك عبر التسعينات، وحتى الآن، صوت واحد تمكّن من أن يقول زمننا: ما يضطرم في زمننا من حزن داخلي عميق، من هشاشة، من رغبة مقموعة بالفرح، من إحساس بالعدمية والفراغ. كل ذلك تأتي أغنية حب، مجرد أغنية حب، لتقوله دفعة واحدة، وهو أمر لا نراه كثيراً في عالمنا العربي الفارغ، بل نكاد لا نراه.
لعلّ هذا هو لغز فيروز الحقيقي. لا تحتاج إلى أن تغني اليوم حول العراق مثلاً، أو أن تصدر "بياناً" أو موقفاً ما حول "الانتفاضة"، حول ما يجري في لبنان.. الخ. لم تفعل فيروز ذلك في السابق ولن تفعله اليوم. لا تحتاج إلى أغنيات مباشرة تحكي ملحمياً ما جرى ويجري. الصوت وحده، بما يعتمل ويختمر فيه، بما هو صوت روح، وبما هو روح زمن، ينجز مثل هذه المهمة. "رفيقي صبحي الجيز" تنجز مثل هذه المهمة، أغنية "مريم" تنجزها، "صباح ومسا".. الخ.. هذه الأغنيات، إذ نستمع إليها طازجة، وقت صدورها، متلهفين لهضمها كاملة، لنسبها إلى موقع فيروز في أعماقنا، تبدأ بالتخمّر مع الأيام التالية، حين تنتسب إلى الاستماع الفردي غير المحكوم بأي مناسبة، وعندها نكتشف، كل على حدة، أنه ثمة وراء الكلمات، ما يتجاوز إحساسنا المباشر تجاهها، ثمة تلك القدرة الهائلة للزمن، لكي يستمر بعد انتهائه، بعد افتقاده، لكي يصبح ثمة معنى ما، حقيقياً وأصلياً، لما نعيشه، وسط هذا الخراب الهائل.
سامر أبو هواش