هل روّج محمود درويش للسلام مع القتلة؟
غادا فؤاد السمان تخوّن قامات إبداعية وأربعة كتاب يحاكمونها
أثار كتاب غادا فؤاد السمان ـ غير الكاتبة غادة السمان المعروفة ـ «إسرائيليات بأقلام عربية» زو
بعة أدبية وإعلامية وفكرية، كونه أنزل بعض رموز الشعر الفلسطيني المقاوم في الداخل ، من محمود درويش الى فدوى طوقان وغيرهما، الى مستوى «التخوين» في مسايرة الإسرائيلي ، ومهادنته، مستبعدة بشراسة ان يكون هذا الأمر «مجرد خطأ» فتتساءل الكاتبة: هل ينبغي على المثقف الذهاب الى اوروبا او أميركا للبحث عن اليهود المثاليين؟ وهل يجب عليه ايضا دخول اسرائيل للتعرف الى الإسرائيليين الممتازين والإنسانيين؟ وهل يجب ان يتمتع كل مثقف بصداقة يهودي ويأخذ على عاتقه بالتالي الترويج لسمعته وخصاله الحميدة؟ هل هذا هو دور المثقف الان؟
أربعة شعراء ومفكرين ناقشوا في بيروت كتاب السمان، بأسلوب أقرب الى «المحاكمة»، وهم: الشاعر محمد علي شمس الدين، الشاعر غسان مطر، المفكر الدكتور رضوان السيد ، والشاعر لامع الحر.
فقد أجرى الاربعة جولة افق في «إسرائيليات بأقلام عربية»، كانت من محطاتها الابرز التأكيد على النقاط التالية: الخطاب الشعري لمحمود درويش يبقى ارقى من اسرائيل ومن الاحتلال.
يعتبر محمد علي شمس الدين كتاب غادا السمان «جريئاً»، ويصفه بانه: «للمرة الاولى في الادب العربي يتم التصدي على هذا المستوى لرموز مكرسة».
ويشبه أسلوب الكاتبة بـ «اللغة المبضعية»، مشيراً الى انه: «بمجرد نشر كتابها بلغة جارحة فاضحة واستفزازية، فقد احدث ذلك ما يشبه الزوبعة الإعلامية».
لكنه يستدرك مشيداً بمحمود درويش قائلاً: «رأيي ان الخطاب الشعري عنده ارقى من اسرائيل ومن الاحتلال».
وهو يقول موضحاً ذلك: «ان الصراع العربي الإسرائيلي شائك وصاحب سطوة واعمق، ومن شدة تعقيده والتباسه أصبحت الضحية أحيانا تلتمس اعذاراً للقاتل، هذا من ناحية رومانسية، الرغبة الجامحة في كون الشاعر عادلاً وحنوناً مع القاتل هذا جزء من الكلام، الجزء الاخر بعد ان قرأت كتاب غادا فؤاد السمان وفيه موضوع حار جداً ومربك ومعقد للغاية فنحن نستطيع ان نتكلم كلاماً ثقافياً يتحدث عن التطبيع وهو باختصار اعتراف هذا القاتل بالقتيل بكل بساطة، واذا كانت اسرائيل ابنة شرعية لوعد بلفور فان السؤال الخطير هنا ما هو دور الدول العربية في صنع دولة اسرئيل؟
ونتيجة للفضائح السياسية التي يبتلعها الشعب العربي يوماً بعد يوم، صار من حق الكاتبة وهي شاعرة حساسة ان تنشر كتاباً بعنوان «اسرائيليات بأقلام عربية»، باعتبارها شاعرة ومعنية بالشأن السياسي ولكن بمجرد نشر هذا الكتاب بلغة جارحة واستفزازية واتهامية، «لغة مبضعية»، فقد احدث ما يشبه الزوبعة الإعلامية، لجهتين ان اسمها «غادا السمان»، ولجهة ثانية وهي الاهم ان هذه اللغة المبضعية قد تصدت لثلاثة رموز مكرسة معروفة جداً، مطروحة جداً في الاعلام، مطروحة في السياسة، باختصار مشهورة ونقطة على السطر، وهم: «محمود درويش، فدوى طوقان، واحلام مستغانمي».
فللمرة الاولى يتم التصدي في تاريخ الادب العربي باصدار كتاب جريء على هذا المستوى يتصدى لرموز مكرسة كما ذكرت، ذلك ان لدينا نحن العرب ميلا عاما للتكريس (تابو)، لا يسمح المساس والتطاول على اي من الاسماء المكرسة اعلامياً، فقد تناولت فدوى طوقان حول سيرتها الذاتية مثلا، لكن اهمية ما تناولته غادا السمان في كتابها، انها توقفت عند المحطة البارزة في مذكراتها التي تتحدث عن علاقة طوقان بموشيه دايان،مقارنة اياها مع مذكرات (دايان) نفسه في سيرته ايضاً المعنونة (الفاشية)، كما انها انتقدت درويش في معظم مواقفه السياسية المتباينة، بلغة اتهامية مباشرة وواضحة.
الصدمة التي صعقت غادا السمان وبنت عليها كتابها واقعة لقاء طوقان مع دايان على اثر هزيمة 1967فتأتي على ذكرها ضمن المذكرات بطريقة التباهي والتماهي ووقائعية حرفية للقاء، متناسية انها تلتقي جلاداً من جلادي إسرائيل لا يختلف عن بن غوريون حتى هذا الخنزير شارون لا شك ان الأسماء قد تغيرت لكن تظل ملامح الجلاد واحدة لليوم، مصورة طوقان لقاءها الحضاري بعائلة دايان ومستشاريه،
والذي هز غادا السمان مبالغة طوقان في الحديث عن ذائقة دايان الحضارية والفنية وحبه الشديد للاثار فتصورها بمشهدية تفصيلية يفوتها ان موهبة دايان تتعدى حبه لجمع الاثار الى السطو على كامل الأرض الفلسطينية، هنا اطرح سؤالاً الى اين كان هذا المسعى السياسي يرجع الى «كامب ديفيد» و«اوسلو» وتبرير فعل الجلاد للضحية؟ اما في الفصل الثاني، فاللافت عند غادا انها تتعرض بهدوء اكبر في نقدها لنص محمود درويش «عندما يبتعد» ورأيي ان الخطاب الشعري عند درويش هو ارقى من اسرائيل وارقى من الاحتلال.
تجاه هذا الهدوء الشعري العجيب الراقي الانساني من الواضح في النتيجة ان السؤال عند غادا هو سياسي، والكتاب بالمجمل سياسي والمحاكمة تقع في هذا الباب، انا شخصياً ضد اي صلة بالعدو الاسرائيلي، وليس اليهودي، الذي لا علاقة له بالاسرائيلي وهنا افرق فمحمود درويش في شعره مأزوم جداً، هو يعيش في فلسطين ويعرف العبرية، وهو انتمى الى حزب «راكاح» الاسرائيلي ثم خرج.
ويختم شمس الدين: اذن قد تعايش محمود مع اصناف من الناس، وهو يقول جملة شديدة الالتباس «لولا المسدس لاختلط الناي في الناي» لكن المشكلة ان المسدس «كامن داخل الناي نفسه» وشخصياً استطيع القول من خلال شعر محمود درويش ان نصفه يهودي ونصفه فلسطيني، ولا شك انه يعيش وطأة الصراع والازدواجية الداخلية وهي اشد تأثيراً منها في الواقع السياسي، ومن هنا اشرع لغادا صلاحية المساءلة وجدوى الهجمة والمواجهة والاتهام التي فاجأتنا جميعاً وكتابها يحتاج الى جلسات نقاش مفتوحة ولا يمكن الاحاطة او الاطاحة به من خلال الهام بجلسة واحدة او اكثر.
ويرى غسان مطر «وقاحة» غادا فؤاد السمان في انها: «اتهمت الرمز الاكبر لشعر المقاومة في الداخل» محمود درويش وقالت انه يروج للسلام مع القتلة والمغتصبين وفي رأيي ان درويش مأزوم فكرياً، و«ان قديمه غيره في جديده الذي فيه اشارات مهادنة يردها الى النضج».
وفيما يعتبر ان غادا «كتبت ما كتبته لخوفها على الارض والناس والمستقبل»، يرى ان كتابها «سياسي بامتياز، ويشكل»: تحذيرا وقائيا استباقا لكل الاقلام وتحذيرها من الوقوع في «فخ» الضجر والتعب والواقعية، او العولمة الثقافية المحكومة بمعايير الوحش الاميركي ـ الاسرائيلي.
ويتابع مطر موضحاً: ابدأ باعلان انحيازي الى الخلفية الفكرية السياسية التي منها انطلقت غادا لتكتب ما كتبت فمن واجب المثقفين ان يكونوا صوت الوجدان القومي، ورأس الحربة في المشروع النضالي التاريخي الطويل ضد تكريس الاغتصاب والتسليم بانتصار القوة على الحق، من هنا انحيازي، ومن هنا اطل على كتاب غادا فؤاد السمان، باعتباره كتاباً سياسياً بامتياز، وتحذيراً وقائياً استباقياً لكل الاقلام، ولكل النخب، من ان تقع في فخ الضجر والتعب والواقعية او العولمة الثقافية، على حد مصطلحات الزمان.
لكن الخطير فيه والجدير والمثير «والوقح» هو انه صوب على «الرؤوس» كما يسميهم مارون عبود.
فالاتهام موجه الى الرمز الاكبر بين شعراء الارض المحتلة، (محمود درويش)، فهنا «وقاحة» غادا السمان.
ان تقول عن محمود، وهو الذي تردد قصائده الملايين، وتعتبره شاعر المقاومة الاول، ان تقول عنه انه يروج للسلام مع القتلة والمغتصبين، ففي ذلك ما يشبه الكفر.
هنا تتزاحم الأسئلة: هل أصابت غادا أم ظلمت؟
هل استهدفت الرأس لتخفيف الأذناب؟ هل صوبت على محمود درويش، وفدوى طوقان، واحلام مستغانمي، لتحدث ضجيجاً كبيراً وردود فعل كبيرة؟
هل هو التشاطر الاعلامي ام الموقف الفكري السياسي الصارم؟ في قناعتي ان ما ذهبت اليه غادا من خلال النصوص التي شرحتها يستوجب توقفاً عاقلاً لا عصبياً، ويستوجب قراءة دقيقة وعميقة، لحركة القصائد ككل، وليس كمقطوعات وهذا ما قمت به مرات خصوصاً عند محمود درويش، وعلى ضوء هذين الامرين التوقف والقراءة خلصت الى ان محمود مأزوم فكرياً، والى انه في قديمه هو غيره في جديده، والى ان في جديده اشارات ركون ومهادنة، يردها هو الى النضج،
لكنني لا التقي معه،ففي تلميحاته ما هو اقسى من التصريح في معنى التعايش والتفاهم، هذه كلها علامات تتيح لغادا ان تطلق النار وهي غير متجنية، وهذه كلها علامات تتيح لنا ان نتساءل عما دهى الناس، والكبار منهم، حتى استطابوا الوقوف في طابور العولمة الثقافية، المحكومة بمعايير الوحش الاميركي ـ الاسرائيلي النهم.
واضاف: هذه كلها علامات تجعل من كتاب غادا السمان صرخة موجعة في الزمان والمكان، تحاول ان توقف هذا «التفجع» القاتل الذي يصيبنا في اعصابنا وفي مفاهيمنا وفي ثقافتنا.
النزوع الطاهر
بالنسبة للدكتور رضوان السيد فانه يصف غادا السمان بانها: «تملك النزوع الطهوري بعدم تشريع العلاقة بين الفلسطيني والمحتل الاسرائيلي».
ويوضح السيد قائلاً: «بتقديري احلام مستغانمي مقحمة بالموضوع ولذا لا يهمني التطرق اليها» المهم في هذا المقام هو المشكلة الفلسطينية عند محمود درويش وفدوى طوقان غادا السمان تملك النزوع الطهوري بعدم تشريع العلاقة بين الفلسطيني والمحتل الاسرائيلي.
ماذا برأي السمان كان الفلسطيني يملك بعد الاحتلال غير العمالة لاسرائيل او الانخراط في الحزب الشيوعي، كل المثقفين الذين نعرفهم بعد 67 انخرطوا في الحزب، ومحمود درويش هو من هؤلاء فهو اكبر شاعر بعد المتنبي في القرن العشرين فكلابداع التباس وقصيدة درويش التي تناولتها غادا السمان شديدة الالتباس، وجهة نظري ان محمود درويش كبير وعظيم بسبب هذا الالتباس : «لا تعرف كم تتلبس عدوّك وكم يتلبّسك» من شدة العداوة يمكن ان تستخلص الصداقة، فوتيرة محمود درويش هي وتيرة الشعب الفلسطيني بعامته،
وايقاعه ايقاع الشعب الفلسطيني برمته، فمتى همد الايقاع خمد درويش، ولهذا نجده في القصيدة التي تناولتها السمان ـ عندما يبتعد ـ انها جاءت نتيجة يأس عند درويش عندما يسلّم للاسرائيلي اليهودي انه قد الغاه كلياً، وليست اعترافاً بالمحبة والولاء، معناه انك المنتصر وانني المنكسر.
بالنسبة لفدوى طوقان هي امرأة مكسورة ايضا لا اعتبرها شاعرة كبيرة متوسطة الحال بل امرأة زاهدة في السياسة.
بعد هزيمة 67 وبعد «لاءات» الخرطوم من السذاجة انها خالت نفسها على درجة من الاهمية تخولها ان تكون وسيطاً سياسياً بين جمال عبد الناصر وموشي دايان واذا كانت السمان ترى في علاقتها التي تتباهى بها في مذكراتها نوعاً من الخيانة والعمالة، فأنا ارى انها من السذاجة والضعف والانكسار، فقصيدتها ليست على درجة من الاهمية، وشعرها متوسط من الناحية الفنية بينما تعتبر نفسها شاعرة المقاومة الأولى، وشاعرة الأرض المحتلة بينما واقع الحال يشير الى خلاف ذلك.
الخطأ غير الخيانة
اما لامع الحر فيرى ان الخطأ شيء، والخيانة شيء اخر ان ثمة فرقاً بين من يخطئ وبين من يخون: «وثمة ناقوس خطر يدقه الذين يرون في مسايرة اللوبي الصهيوني طريقاً الى العالمية».
ويقول الحر ضمن ذلك الاطار: «اسرائيليات بأقلام عربية» نوع من الهلوسة، في اذهان المهيمنين، على اغلب منابرنا الثقافية، ونوع من الثرثرة التي لا تعترف بالواقع العربي المستجد، والتي تفضي حكماً الى جحيم، واي جحيم.
وكاتبتنا غادا فؤاد السمان لم يستدرجها احد الى هذا الجحيم، بل دخلت بملء ارادتها، كأنها شاءت ان تغوص في النار، لتحرق وتحترق في آن معاً. الكتاب بضاعة محظورة في الساحة الثقافية، والويل والثبور لمن يتجاوز الخط الاحمر.
فكتاب السمان جريء لكاتبة مشاكسة الى حد الانتحار، او الى حد النصر، لا تخشى لومة لائم، ولا تستسلم للاخر لا في منتصف الطريق، ولا في منتهاها، بل تقول بقوة قائمة على الارتكاز على نصوص، لا شك فيها ولا التباس، وبقوة قائمة على المقارنات والمفارقات وعلى المعرفة بنتاجات عبرية (اكانت مذكرات موشي دايان، او قصائد الشاعر الإسرائيلي يهودا عميحاي، او دافيد ابيدان)، وبقوة قائمة على قراءة معمقة للاخر، وعلى تحليل نقدي بنيوي حديث يفكك ليبني رؤية، وليصل الى نتيجة مقنعة للكاتب والمتلقي في الوقت نفسه.
قد يستشف بعض القراء من الكتاب شيئاً من التجني...