قصة شاعر حقد على البرجوازية الفرنسية
بودلير في القيود
تأليف: هيلتون فرانك
مؤلف هذا الكتاب هو الناقد هيلتون فرانك المختص بالآداب الفرنسية وشعر بودلير على وجه الخصوص. وهو هنا يقدم للقاريء الانغلوساكسوني سيرة حياة الشاعر الفرنسي الكبير والمعاناة التي تحمَّلها طيلة حياته كلها. ثم يسرد لنا المؤلف حياة بودلير ويقول بما معناه: ولد شارل بودلير عام 1821 من أب معمّر يقترب من الستين وأم شابة لا تتجاوز الخامسة والعشرين الا قليلاً. ثم فقد والده وهو في السادسة من عمره. وقد حزن عليه كثيراً لانه كان يلعب معه ويأخذه يومياً تقريباً إلى حديقة اللوكسمبورغ الواقعة في وسط العاصمة الفرنسية.
ولكن حزن أمه أثر عليه اكثر من موت والده. فقد كان مرتبطاً بها جداً ويحبها إلى درجة العبادة. وربما شعر سرياً بالسعادة لان والده مات ولم يعد لها الا هو لكي تحبه! فالآن لم تعد تهتم بزوجها العجوز وتهمل طفلها. الآن لم يعد في البيت الا شخصين: هو وهي، وأصبحت أمه ملكه وحده. وهكذا توهم.
وذلك لان هذه الحالة لن تدوم طويلاً في الواقع. فبعد عام أو أقل تعرفت السيدة كارولين ـ أم بودلير ـ على ضابط شاب يدعى أوييك. وبدءاً من تلك اللحظة أظلمت الدنيا في عين الطفل الصغير الذي لا يتجاوز السابعة من عمره.
ويقال بانه لم يعش في حياته كلها فترة سعادة الا تلك الفترة الفاصلة بين موت والده وزواج امه: أي بضعة اشهر فقط أو ربما سنة وبضعة أشهر. بعدئذ ابتدأ عذابه لانه اصبح مضطراً لان يشاركه في حب أمه شخص آخر. والانكى من ذلك هو أنه ليس والده وانما رجل اجنبي دخل حياتهما فجأة وقلبها رأساً على عقب. وهكذا ابتدأ كابوس بودلير.
ويقول النقاد بانه لم يقم من تلك الضربة أبداً طيلة حياته كلها. ولم يعد يثق بالحياة. وكيف يثق بها بعد أن جاءته الضربة من أعزّ الناس عليه، أي من أمه؟!
ثم يردف المؤلف قائلاً: بعدئذ اكتشف بولير أن الدودة في الثمرة، ان لحظات السعادة قليلة وتسرق سرقة من الحياة، أنه لا أمان في هذا العالم. بعدئذ أخذ يشعر ان الحياة ما هي الا قيود وأصفاد، وكوابيس متواصلة سوداء.
ولهذا السبب اصبح شاعراً فيما بعد. كان يلزمه ان يصاب بجرح عميق، جرح لا شفاء منه لكي يدخل عالم الفن والشعر، عالم الجحيم والمعاناة، لكي يصبح أكبر شاعر فرنسي في العصور الحديثة.
ثم انتقلت العائلة إلى مدينة ليون عام 1830 وسجلوا الصغير شارل في مدرسة داخلية. واستغرب كيف يمكن لأمه ان تنفصل عنه بمثل هذه السهولة.. ولم يفهم أنها تريد أن تعيش حياتها الخاصة، ان تختلي بزوجها، انها لم تعد ملكه وحده! فأبوه عندما مات تركها شابة لا يزيد عمرها عن الثلاثين الا قليل.
وبالتالي فكان متوقعاً أن تتزوج، ولكن كيف يمكن لطفل صغير انه يفهم ذلك؟ لقد اعتبر زواجها بمثابة جريمة، أو خيانة بالنسبة له. ولم يغفر لها ذلك، ولم يغفر للحياة انها صدمته بهذا الشكل الفج والعنيف وهو لايزال غضاً طرياً بعمر الورد.
وسوف ينعكس ذلك في أشعاره لاحقاً. سوف يتجلى على هيئة نزعة سوداوية قاتمة، على هيئة سأم من الحياة والوجود. وسوف ينفجر عندئذ بالشعر الرائع، الشعر المكبوت منذ زمن طويل. وسوف يكون هذا الانفجار هو الحل الوحيد لأزمتة الشخصية وتناقضاته الداخلية. ثم يردف المؤلف قائلاً: لكن لنعد إلى سيرته الذاتية. عندما بلغ شارل بودلير الثامنة عشرة راحت أمه وزوجها الجنرال أوبيك يفكران في مستقبله.
وقالا له: اختر اما الجيش واما الدبلوماسية، فبما ان العائلة ذات علاقات واسعة بأوساط الحكومة والطبقات العليا في باريس فانها تستطيع ان تؤمن لك مكانة مرموقة في الجهتين.
وكانت أمه تحلم له بمنصب في وزارة الخارجية، كأن يصبح ملحقاً باحدى السفارات الفرنسية في الخارج مثلاً. اما هو فكان يقول لهم: لا أريد أي وظيفة أريد شيئاً واحداً: ان اصبح كاتباً.
وكان ذلك بمثابة الفضيحة بالنسبة لعائلة بورجوازية فرنسية كعائلته. فالكتابة ليست مهنة في نظرها. أوقل انها مهنة العاطلين عن العمل والمتسكعين في الشوارع، والناس التافهين الذين لا يمكن ان يصبحوا أغنياء أو محترمين في المجتمع.
ولكن المشكلة هي ان هذا ما كان يريده بودلير بالضبط!
كان يريد ان يعيش متسكعاً من حارة إلى حارة ومن خمارة إلى خمارة، وان يكتب بعدئذ قصيدة عصماء في غفلة من الزمن، قصيدة تساوي الدنيا ومن عليها. لقد دخلت جرثومة الشعر إلى دمه، إلى قلبه، ولم يعد يستطيع منها فكاكاً. ولكن هل يمكن لجنرال في الجيش أن يفهم ذلك؟
ثم اضطر تحت ضغط العائلة إلى تسجيل نفسه في كلية الحقوق. وهناك شعر بالملل فوراً. فهو لا يحب هذه المادة الجافة، ولا يحب الرياضيات ولا القوانين التجريدية ولا العلم. شيء واحد يحبه ويهواه هو: الأدب.
وهكذا راح يقضي وقته في معاشرة المومسات في الحي اللاتيني وشرب الخمرة وقرض الشعر! راح ينزل إلى الطبقات التحتية، الطبقات السفلى للجحيم، ويحقد على أمه وزوج أمه وكل البورجوازية الفرنسية التي تريد أن تقيده بقيودها وأصفادها.
وعندما اندلعت ثورة 1848 كان عمره سبعة وعشرين عاماً.
وقد نزل إلى الشارع مع المتظاهرين، بل وحمل البندقية لكي يساهم في قلب النظام القائم وكل البورجوازية الفرنسية.
والأنكى من ذلك هو ان زوج أمه الجنرال أوبيك هو الذي كان مسؤولاً عن أمن العاصمة وقمع المتمردين. وبالتالي فأمه وزوجها كانا في جهة النظام والطبقات العليا، وهو في جهة الفقراء والمتمردين على النظام.
بل ووصل الأمر به إلى حد تهييج بعض الشباب الآخرين لكي يذهبوا إلى مقر القيادة ويقتلوا الجنرال أوبيك!
كم شعر بودلير بالسعادة عندما دبَّت الفوضى في العاصمة، وعندما سيطر الثوار على الشوارع واختفى الاغنياء والبورجوازيون عن الانظار! وقد تحدث عن تلك الفترة لاحقاً في كتابه: قلبي مفتوح على مصراعيه: «نشوتي عام 1848. من أي طبيعة كانت تلك النشوة أو ذلك السكر؟ كانت تلبية لرغبتي العميقة في الانتقام. كانت تلبي رغبتي الطبيعية في التدمير والهدم. كان سكراً أدبياً، ذكرى القراءات».
لكن بودلير نسي ان يقول بأنه كانت له حسابات يريد ان يصفيها مع الحاكم العسكري لباريس، مع زوج أمه الجنرال أوبيك! كان يريد أن يقتله لانه أخذ مكانه في قلب أمه، لانه كان دخيلاً على العائلة الصغيرة، لانه قضى مبكراً على فترة الطفولة والسعادة لطفل لا يتجاوز عمره السابعة.
ولهذا السبب أصبح بودلير مازوشياً وسادياً في ان معاً. أي الضحية والجلاد. أصبح ذا نفسية معقدة تستمتع بتدمير ذاتها في الداخل وتدمير المجتمع في آن معاً. أصبح حاقداً على مجتمع الامتيازات، والمظاهر الفارغة، والتشريفات الرسمية. وأكثر شيء كان يكرهه هو الأدباء الرسمين للدولة، اولئك الذين ينالون الجوائز على أدب سخيف يصفق له الناس السخفاء من أمثال أمه وزوجها. فالأديب الحقيقي ينال جائزة واحدة في حياته: نبذ المجتمع له وحرمانه من كل الجوائز.
باختصار أصبح بودلير خارجاً على المجتمع ولا يستطيع ان يتنفس داخله. وفي ذات الوقت راحت الديون تحاصره، وراح الدائنون يقلقون مضجعه. وفي كل مرة كان مضطراً لان يكتب إلى أمه لكي تنقذه من براثنهم.
وفي تلك الفترة تعرف على شعر ادغار آلان بو. ولأول مرة يجد شخصاً يشبهه من حيث النحس والفقر والهامشية والعبقرية. وراح يتعلق به الى درجة العبادة. ثم راح يترجمه تلك الترجمة الرائعة التي لايزال الفرنسيون يعيشون عليها حتى الان. ويقال ان بودلير كان ينزل إلى الحانات وبعد ان يطلب كأساً يسأل النادل: هل سمعت بادغار الان بو؟ فيجيبه الآخر: لا. وعندئذ يروي له بودلير قصة حياة هذا الكاتب الأميركي الفذ الذي وجدوه يوماً ما ميتاً وسط الشارع أو على قارعة الطريق.
وفي احدى المرات التقى بشخص أميركي في احدى الحانات الباريسية فسأله عن ادغار آلان بو وهو يعتقد انه يعرفه لا محالة. فهز الأميركي رأسه باستغراب معلناً انه لم يسمع به على الاطلاق. وعندئذ انزعج بودلير وشتمه، بل وكاد ان يضربه. وخرج من المقهى وهو يقول: يانكي تافه! أي أميركي حقير!
لقد رأى بودلير في هذا الكاتب الأميركي صديقاً في الروح والفكر والشعر. وتحسر على انه لم يتح له التعرف عليه شخصياً. ثم راح يكتب عنه دراسة رائعة لا تقل أهمية عن الشعر. وكانت بعنوان: «ادغار آلان بو، حياته ومؤلفاته». وابتدأها بالعبارات التالية: هناك مصائر كالقدر المحتوم. هناك شخصيات استثنائية في التاريخ.
يوجد في آداب كل بلد رجال يحملون كلمة النحس وهي مكتوبة بحروف سرية على غضون جباههم. منذ فترة اقتادوا إلى المحكمة شخصاً فقيراً مكتوباً على جبهته كالنقش: ما له حظ في الحياة، وهكذا كان يحمل على جبينه صفته كالكتاب الذي يحمل عنوانه.
ثم يردف بودلير قائلاً بما معناه: وفي التاريخ الادبي توجد شخصيات مشابهة. يحصل ذلك كما لو ان شيطان التكفير قد استولى عليهم وانتقم منهم من اجل تربية الآخرين لهم وجعلهم عظة للآخرين.
ولكن عندما نقرأ سيرة حياتهم نجدهم أناساً معذبين، طيبين، مليئين بالنخوة والانسانية. وكل مأساتهم تكمن في ان المجتمع لفظهم وخلع عليهم لعنته وشوه سمعتهم من خلال اضطهاده لهم. من بين هؤلاء الكاتب الاميركي الكبير ادغار آلان بو.
ثم يقول بودلير هذه العبارة المهمة: هل هناك قدرة شيطانية تحكم على هؤلاء العباقرة بالعذاب منذ نعومة أظفارهم؟ فهذا الرجل ذو الموهبة المظلمة والكابوسية يخيفنا. ولكن ينبغي ان نعرف السبب. ينبغي ان نعلم ان القدر شاء له ان يولد في مجتمع معاد. ولذا فإن ادغار آلان بو السكير، العربيد، الفقير، المضطهد يعجبني أكثر بكثير من شخص هاديء، فاضل، محترم، كغوتة أو ويليام سكوت. والواقع ان الطبع أو العبقرية أو الاسلوب الخاص بشخص ما كان قد تشكل من قبل الظروف الأولى لطفولته.
هكذا نكون قد عدنا إلى الطفولة من جديد، هذه الطفولة التي تحسم قدرنا أو مصيرنا سلباً أو إيجابا أكثر مما نتصور. وقد حسمت الطفولة مصير بودلير.